صدرت
الرواية عام 2017 عن دار رياض الريس للنشر في بيروت، للبنانية مي منسّى، التي توفت
حديثًا عن عمر يناهز الثمانين عام، بعد أن وصلت روايتها إلى القائمة الطويلة لجائزة
البوكر لعام 2019.
من أسم الرواية، تحكي قصة فتاة تعاني من التوحد وكانت أمها قد توفت خلال ولادتها، فتعيش الفتاة محملة نفسها ذنب قتل أمها لتحيا هي، بالإضافة إلى مرض التوحد، فتعيش الفتاة حياة معزولة عن العالم.
إلى أن تلجأ إلى مركز تعليمي في بلجيكا لمحاول التخفيف من حدة العزلة التي تعيشها من صغرها، فتتعرف هناك على مخرج مسرحي يحاول تخليصها من عالمها المنغلق بعد أن يقرأ كتابتها.
فـ "قتلت أمّي لأحيا" ليست مجرّد رواية، إنها حياة كاملة، أسطورة، مطر يصل الأرض بالسماء و بالجحيم.
هي ثقب أسود يبتلعك و يفترسك، تجتاح عقلك ومشاعرك و تحل بك إلى عالم آخر إنساني محيطي ونفسي، وفي بعض الأحيان، تقرّبك من نفسك لدرجة مخيفة تقطع الأنفاس.
قتلت لأحيا !!
القتل نوعان: قتل حرفيّ، وقتل أشدّ فتكا وهو: التخلّي.
"عدني بأنك لن تتركني، لماذا لا تدعني أشاركك في السعادة التي تبحث عنها؟"
نبدأ بالقتل الفعليّ الذي يقودنا إلى بقعة الدماء تلك التي لا تجفّ مهما مرّ من زمن، بقعة دم تتمدد ولا تنضب على مدى عقود، دماء افراد عائلة تمتزج بدماء اللبنانيين على امتداد الوطن الجريح، دماء لا تجف ولا تمحي من الذاكرة أو من الورق او من الطرقات.
"الدماء على الطرقات، تعالوا واشهدوا، الدماء على الطرقات"
بقعة دم تلحم شخصيّات الرواية وانفعالاتهم وديناميكية تفاعلاتهم في عوالمهم الوحدانيّة كما الإجتماعية، "الحياة بقعة دم" دم فارس على خط التماس، المسرح شيّد هناك حيث دماء العديد من ضحايا الحرب اللبنانية، "حرب لا لشيء" ، دماء حين قابلت رشا شريف وسبحت إلى عالمها وعالم كاليغولا، دماء سناء وحبيبها التي امتزجت في المخيّم و وحّدتهم إلى الأبد أسطورة وجسدًا، دماء الأستاذ ودماء حبيبته ضحايا الحب القاتل، دماء يونس المقتول غدرا.
"هنا كان دم هدى سابحًا في فراش التبن، تخيّلته كدم أبيها فارس على خط التماس، الدم لا ينسى، يعتق ولا يهجر الأمكنة التي هدر فيها"
نوع القتل الثاني يمتزج أيضًا بالدماء إمّا بدم يسيل في العروق أو منها..
نقتل أنفسنا كي نعود إلى الحياة من خلال الدم والحبر والدموع والمطر، ومن خلال نبض الأرض و رحمها.
"الطبيعة هي الحضن الواقي لمن يحسن الإصغاء إليها"
حراثة الأرض هو حب من نوع آخر، الأرض هي الرحم المكمّل لرحم المرأة، والرحم الذي نعود إليه بعد أن تقتلنا الحياة، وصيّة الأجيال الأربع في الرواية هي: إن أهملت الأرض "صارت كفنا للذاكرة"..
"المسرح علاج المتوحد"
خشبة المسرح هي خشبة خلاص رشا من التوحّد، مي منسّى تؤمن بقوّة الفن التطهيريّة والشفائيّة، تبحث الشخصيات عن توأمها، تمامًا مثل أسطورة خلقنا كاملين بأربعة أرجل وأيد و رأسين، وشطرنا نصفين وهكذا نقضي أيامنا نبحث عن نصفنا الثاني، تتجلّى بعض الثنائيات المتعارضة والمتوازية من خلال المسرح حيث القدر يعطينا أدوارا نلعبها.
الحبيب كما الله ينفخ في قلب المحبوب من روحه ويشيّد له مسرحًا ويخرجه من آلامه، يقول المسيح إحمل صليبك واتبعني على طريق الجلجلة، تذكر مي منسّى مأساة حب آدم وحواء، بين الهنا والهناك، وفي قلب الهذيان على خشبة المسرح، نغوص في ثلاث مسرحيّات أساسيّة في هذه الرواية:
1- مسرحية "دورا طير يغنّي في الليل"..
رشا هي هذا العصفور النادر "دورا من مسرحية مكتوبة بيد القدر"
يدعوني "أوفيليا" حبيبة هاملت:
مثلها أنت يا رشا، روح لا قشرة تصونها من التلف سأحميك من جنون هاملت ولن تموتي غرقا.
"ماذا أقول للذي رأى ضوئي وأنا متعثرة بالظلمة؟"
رشا المتوحّدة هي مزيج من نساء التراجيديا إمرأة من عدة كائنات تبحث عن هويتها في شتات تاريخ عائلتها تجابه الخوف من التخلّي عنها هذه المرأة الأسطورة اتّشحت بغشاء التوحّد تنشد الحب الذي يجبل الجسد والروح تضيع ما بين كونها الدودة، الشرنقة، أوالفراشة هنا أستحضر هذا الاقتباس من رواية مي منسّى "ماكنة الخياطة": "هل كنت كدودة الفراشة تلك، التي تبقى سنوات في شرنقتها تستعدّ لعرس الحرية، متكتّمة، سريّة إلى أن تحين إطلالتها إلى الضوء؟"
2- مسرحية "الشقيقان" المبنيّة على "كاليغولا"..
كاليغولا والصراع بين الاخوة المختلفين: أخ أبيض وآخر أسود، لا سبيل لفضّ الإختلاف سوى بالقتل أو بالهرب من هذا التوأم: أخ، أخت، حبيب، أم، أو أب، العودة إلى الحياة تتمّ عبر إكمال مسيرة الغائب الهارب أو الميت، وهذا يسهّله الفنّ المسرحيّ، الكتابيّ، أو الموسيقيّ.
يرتبط الشقيقان بالدم والتاريخ، "كان هو كاليغولا يمعته يكسر المرآة ويقول 'ها أنا حي'"
"في ابتعاده عن حرب لبنان وحربه مع شقيقه، بنى شبه حياة"
هذه الحرب حيث يقتل الأخ أخاه البيولوجي وغير البيولوجي كي يحيا ترمز إلى الحرب الأهليّة اللبنانيّة المشؤومة، وصمة عار البيت اللبنانيّ الواحد حيث أخ يقتل تحت مسمّى الثورة وآخر يهرب وينعت بالجبن "أنا ثائر لأحمي نفسي من العدم؛ ثائر لأصرخ علنا 'أنا موجود'، أما أنت، فأراك منذ صغرنا تعيش في خيال كاذب، تهرب من سوادي لتحمي غرور بياضك الباهت" وبين الثورة والوحدانية، تبقى الرصاصة الافتك هي الوحدة بعد التخلّي "في عزلته يتدرب الانسان على الموت".
3- مسرحية "قتلت أمّي لأحيا"..
بالكتابة تتحرّر رشا من وحدتها ولكنّ تاريخ وكتابات الراحلين تسكنها تستمدّ من حروبهم الجسدية والإجتماعيّة والجنسيّة والنفسيّة ولادة ثانية لها بعد تقمّصها آلام من سبقها.
"في زمن الحرب أدركت أن الكتابة سر رسولي أشعر بيد خفية تمسك بيدي وتحثني على الحفر في بدن الورقة وقائع، كانت مستترة في ليل تربيتي الصارمة، فإذا بها تلتحق بالشمس لتستنير بها"
ترسو في بيت العائلة لتجد لوحدتها معنى تكتب الذاكرة التي تنزف حبرًا على الورق، تغفر، تسعى إلى الشفاء من الأم المتخلّية والأخت الهاربة.
"من المغفرة أحيا وأخلص"
الولادة الثانية هي الخلاص، "لقد ترك في أحشائها النواة التي ولد منها"
تجول رشا الصامتة مع شهريار القط أنحاء المسرح وتتفوّق على صلابة شرنقتها، مثلما توحّد شريف مع ابنته سارة، تتوحّد مع أمّها وأبيها وأختها وجدّها الذين قتلت كي تحيا.
أخيرًا، هذه رواية تعجّ بالرموز وتقترح الكتابة والموسيقى والمسرح كحلّ في البحث عن رحم يبعث بالوحداني إلى الحياة، "قتلت أمّي لأحيا" هي ملحمة أجيال تتوارث الألم والفقد والإنسلاخ عن الضلع وصدمة الولادة، هي أسطورة البحث عن توأم الروح في القرية والمدينة والغربة والموت والحب المحرم والزنزانة والكتاب في عالم إنطوائيّ.
"الحياة لا معنى لها إلا إذا وضعناها في خدمة الإنسانية التي لا حدود لها."
فهذه الرواية تستحق بجدارة لأن تكون ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2019..
تحميل رواية قتلت أمي لأحيا pdf
الجائزة العالمية للروية، جائزة البوكر، الجائزة العربية لعام 2019، قتلت أمي لأحيا، مني منسّى