الأدب في زمن الأوبئة

"طاعون" ألبير كاموأول ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن علاقة الرواية بالوباء رواية "الطاعون" للفرنسي ألبير كامو الذي أسس روايته على الطاعون الحقيقي الذي اجتاح العالم متتبعًا تصاعده المأساوي في مدينة (وهران) الجزائرية، واصفًا حال المدينة وأحوالها ورباطة جأش سكانها في مواجهة الطاعون، وحاصدًا في الوقت نفسه منفعة استثنائية تمثلت في حصوله على جائزة نوبل.. قدم للعالم واحدة من أهم الأعمال الروائية فقط، بل تميز بموقفه الإنساني المتقدم، وبمنسوب عالٍ من الإبداع، فلم يقف عند حدود الوصف الواقعي بل سرعان ما ارتقى بالوباء إلى مستويات رمزية لافحة تؤشر على عدم انتهاء الطاعون المجازي مع انتهاء الطاعون الحقيقي، القاتل الجبار الذي يقف أمامه الإنسان ضعيفًا، عاجزًا، مقهورًا، بلا أسلحة ولا قدرة على مواجهة جرثومة الطاعون.فقد أودعَ ألبير كامو كاملَ طاقته في روايته الأبرز "الطاعون"، فعندما بدأت الجرذان النافقة تملأ الشارع والنَّاس يواصلون الموت دون توقف، كان لا بد أن تعزل (وهران) عن المحيط الخارجي، وأن يواجه سكانها الموت عزلاً إلا من طبيبٍ شجاع، وشحنات من إرادة الحياة تدب فيهم من حينٍ لآخر، ولا يتحدث كامو عن واقع، بل عن سلسلة من الإسقاطات ذات الأبعاد التاريخية والاجتماعية والسياسية، عن مدينته التي أحبها حد الوجع.
من هذه الحقيقة العلمية ينطلق كامو في بنائه للطاعون الرمزي/الجهل الفكري، متسائلاً عن مشكلات فلسفية كبرى مثل الوجود والعدم، والحرية والإرادة، في نوع من الأسطرة التراجيدية لمصائر الشخصيات التي تتحرر من محيطها الجغرافي لتصبح ذات كينونة عالمية، محققة في الوقت نفسه (إلى جانب عوامل أخرى بالطبع) عالمية هذه الرواية التي بدأت من جغرافيا ضيقة واتسعت لتماس مع هموم إنسانية عالمية.
"إن الرأي العام شيء مقدس، وينبغي ألا يثار الاضطراب فيه" رغم أن الجملة مأخوذة من رواية "الطاعون" لكامو فإنها تحيلنا لتعامل بعضهم مع كورونا، من محاولة التكتم والتستر لا التعامل الشفاف ومواجهة الضيف الثقيل.
ولم تخل رواية ألبير كامو من الخيال وإن حدد المكان (وهران) وجعل الوباء معروف الاسم ومحدد الزمان (1947)، لكنه وظف ذلك في الإشارة بالرمز إلى غايات أخرى يمكن إدراكها بالنظر لسياق الحرب العالمية.
ويقول نقاد أدبيون أن الأديب الفرنسي استخدم الطاعون رمزًا يشير إلى الغزو الألماني لأوروبا مدفوعًا بأيديولوجية نازية تتضمن الإبادة الجماعية.رمزية بوكاشيو في "الديكاميرون"الروائي الإيطالي جيوفاني بوكاشيو لم يقتصر هو الآخر حين وجد في الطاعون ما يشبع غليله الروائي، فالطاعون أيضًا هو لحمة وسداة رائعته "الديكاميرون" أو ألف ليلة وليلة الإيطالية، كما يحلو لكثير من الكتاب العرب أن يسموها. بدوره يرتقي بوكاشيو في الحكي عن الطاعون الحقيقي في سلسلة متتابعة من المستويات الرمزية التي يجري سردها خلال عشرة أيام؛ هي الزمن الروائي والزمن الواقعي في آن، وهي أيضًا الأيام العشرة الرهيبة التي حصد فيها الموت الأسود أرواح 25 مليونًا من الأوروبيين، أي ربع السكان في النصف الأول من القرن الرابع عشر. ما سيدفع بأبطال القصص إلى الهروب من "فلورنسا" إلى الريف، ليبعدوا عن أذهانهم ما عاشوه من أهوال، و"لينسوا" أو "يتسلوا" عن ذكرياتهم المؤلمة بروايتها. هكذا تولد 100 قصة تُروى خلال عشرة أيام على ألسنة سبع نساء وثلاثة رجال، في طقس من الخوف والشك الآتي في صيغة "حكي ماتع".. الحكي القادر على إعادة التوازن للذات المرهقة والمتشظية والقادر في الآن نفسه على تجسيد كل ما تحمله وتحلم به هذه الذوات من أفكار وانتقادات تجاه قيم العصر، فضلاً عن مساءلة صميمية لمعتقدات الكنيسة بشكل خاص والدين بشكل عام وكل ما ثار في تلك المرحلة من جدل حول العلاقة الصراعية بين الفلسفة والدين أو العقل والإيمان، راسمة الصورة الحقيقية لتلك المرحلة بكل تفاصيلها ونزعاتها.وباء "الكوليرا" في الروايةحضرت الكوليرا في عدة أعمال روائية في رائعة غابرييل ماركيز "الحب في زمن الكوليرا" يظهر الوباء كوحش يدمر كل ما يقع تحت يديه، هناك، في منطقة الكاريبي حيث تجري أحداث الرواية ينجز ماركيز في سردية ساحرة مطولة هجائية متعددة المستويات والأبعاد لذلك الواقع التعس والظروف القاسية التي تحيا فيها منطقة مهملة، مهمشة، تفترس أهلها الأمراض والأوبئة. وهكذا يصبح الوباء منصة إبداعية تستوعب مقولات الروائي الذي يدين الواقع بجرأة استثنائية، يشرّح العلاقات الاجتماعية والفكر التقليدي في المؤسسة الاجتماعية والدينية الرافضة للحب، ويسبر أغوار الشخصية الإنسانية في طيشها ونزقها وصرامتها وتبدلاتها العاطفية والنفسية.لغريب أن ماركيز بعد أن يقوِّل الكوليرا كل ما يريده، ويفصح عن كل ما يعذبه على المستوى الفكري والاجتماعي، يقرر أن يستخدم الكوليرا استخدامًا غير عادي، واضعًا إياها في خدمة الحب. هكذا تبدو كوليرا ماركيز على النقيض من طاعون كامو؛ صديقة للحبيبين.
ويسلك غابريل غارسيا ماركيز طريقًا مختلفًا، حيث كتب رواية حب صافية، ذات زمنٍ طويل يؤرخ الحب ولكنه يمر على كل التغيرات في منطقة الكاريبي؛ ولكي يحظى الحبيبان بتجسيد حبهما معًا في "الحب في زمن الكوليرا"، كان على العاشق السبعينيِّ، الذي ربى حبه نصفَ قرن دون ملل، فلورنتينو، أن يعمد إلى خدعة بسيطة وهي رفع علم الكوليرا على سفينته كي تظل بمعزلٍ عن موانئ العالم ولا تزورها إلا لتتزود بالوقود.
إنها في المشهد الأخير ليست سوى كذبة صغيرة (غير بيضاء) يطلقها الحبيب الذي لا يريد لرحلته مع حبيبته على ظهر السفينة أن تنتهي، مشيعًا أن السفينة عليها وباء الكوليرا، فيتخلص من المسافرين الآخرين ويبقى مع حبيبته وحدهما لكن السلطات تصدق الكذبة وتتعامل مع السفينة باعتبارها "موبوءة" فلا يتاح لها الرسو إلا للتزود بالوقود. وفيما السفينة تروح وتجيء رافعة علم الوباء الأصفر يحتفل الماكر ماركيز بحصوله أخيرًا على غايته؛ الجمع بين الحبيبين العجوزين اللذين يبدآن في رحلة حب أسطوري أذهلت تفاصيله كل من قرأ الرواية.
وقد انطلت الخدعة لوقتٍ طويل ولكنها تنكشف أخيرًا، وتتوقف السفينة عن الإبحار، ولكن الحب لا يتوقف.