استريد لندجرين .. تجربة مُبدعة لأشهر كاتبة سويدية في مجال أدب الطفل

بدأت حياتها المهنية كمحررة صحافية، ولُقبت بـ”معلمة الأجيال”، كما تم تصنفها كالكاتبة الثامنة عشرة بالعالم، من حيث كثرة عدد أعمالها المُترجمة، وبلغ عدد كتبها أكثر من 100 قصة وكتاب، ترجمت غالبيتها إلى 76 لغة من لغات العالم المعروفة، وتم بيع ملايين النسخ منها حول العالم (ما يقرب من 145 مليون نسخة)، لتُعد بذلك من أبرز كتاب قصص الأطفال خلال القرن العشرين.


إنها المبدعة أستريد لندْجرين Astrid Lindgren، والتى أثَّرت في جيل كامل نشأ في النصف الثاني من القرن العشرين، بعدما وضعت بصمتها الخاصة في أدب تلك الحقبة، معبرة عن تطلعات الطفل البريء، ورغبته في التخلص من الكبت والقمع الذي مُورس عليه باسم التربية والأخلاق..

والتى عنت عبر كتاباتها المتفردة الكثير لنا جميعًا، صغارًا وكبارًا، ليس في السويد وحدها، وإنما في العالم بأسره، فقد كان لحكاياتها أن تسحر وتذهل كل حواس قارئها، عوالم قصصها ممتلئة ببيئات وأناس يختلفون تمامًا عما هو موجود في السياق اليومي العادي والمتوقع غالبًا، لتثري بذلك مخيلتنا.


في هذه السطور نلقي الضوء علي أهم ملامح تجربتها المبدعة في مجال أدب الطفل..

ولدت أستريد لندْجرين في 14 نوفمبر 1907م، بمدينة فيمربي Vimmerby جنوب السويد، داخل بيت أحمر اللون، تحيطه أشجار التفاح من كل صوب، لعائلة ريفية تتكون من الأم هانا والأب أوغست، وثلاثة إخوة هم: جونار، ستينا، انجريد، وهناك أتمت دراستها الثانوية.

نشأت الفتاة في بيئة تقدر القراءة وتمجدها؛ لذلك تعرفت مبكرًا على القصص والروايات الخيالية، فقد تعلقت ليندغرين بالقراءة في سن مبكرة، حيث أن جارتها كريستين كانت تقص عليها القصص الخرافية مثل العملاق بام بام و أسطورة فيريبوندا.

وحين تعلمت لندْجرين القراءة أصبحت تبحث عن الكتب، و تذكر بان أول قصة قرأتها كانت بياض الثلج و الاقزام السبعة، وفي 7 أغسطس 1914م بدات ليندجرين في مدرسة فيمربي الإبتدائية، ودائمًا ما كانت معلمتها تقرأ قصص بصوت عالي للصف.

هذه البيئة المشجعة والمحبة للقراءة أهلهتا للعمل في مجال الصحافة وهي في سن صغيرة، ففي عام 1920م حينما كانت في الثالثة عشر من عمرها نشرت صحيفة فيمربي المحلية إحدى مواضيعها الإنشائية.


في سن الثامنة عشر شاركت في منظمة دينية، وألقت هناك التراتيل والترانيم، ثم أنهت دراستها الثانوية بشكل جيد جدآ، وحازت على نقاط دراسية عالية، وبعد حصولها على أعلى درجة في اللغة السويدية عملت لمدة عاميين كمدققة ومصححة لغوية في صحيفة فيمربي.

وبعدها بفترة قصيرة تركت منزل والديها، عقب ترقبها قدوم مولودها الاول، والذي حملت به من رئيس تحرير جريدة فيمربي “راينولد بلومبورج”، والذي طلب يدها للزواج، غير أنها رفضت العرض، وأنجبت في عام 1926م إبنها لارس في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن، ليعيش مع عائلة بديلة في سنينه الاولى.

ثم أنتقلت خلال نفس العام 1926م إلى ستوكهولم، وتعلمت الإدارة والكتابة والإختزال، وفي عام 1929م حصلت على وظيفة مديرة مكتب في نادي السيارات الملكي، حيث ألتقت بمدير المكتب ستوري ليندجرين، (والذي حملت لقبه فيها بعد).

وخلال عام 1930م أمضت بعض الوقت في كوبنهاغن، وذلك بسبب مرض حاضنة ابنها، في عام 1931م تزوجت من مديرها ستوري ليندغرين، وعاشوا في شقة مكونة من غرفتين فقط، ثم عملت كصحفية وسكرتيرة قبل أن تصبح كاتبة بدوامٍ كامل.

كما عملت كسكرتيرة لسباق الجائزة الكبرى الصيفية السويدية لعام 1933م، وفيما بعد رزقت بصغيرها لارش، ثم أخته كارين، وهما السبب الرئيسي في جعلها تتخصص في أدب الأطفال وسرد القصص والحكايات


ويقول ابنها في إحدى اللقاءات:

إنها لم تكن واحدة من تلك الأمهات اللواتي يجلسن على مقعد في الحديقة، ويراقبن أطفالهن اثناء اللعب، على عكس ذلك أمي كانت تريد الإنضمام الي، واللعب معي، وأظن إنها كانت تستمتع بنفس القدر الذي كنت استمتع به

وفي عام 1941م بدأت لندْجرين في كتابة القصص للأطفال وهي بعمر السابعة والثلاثين، والغريب أن انطلاقتها كانت مجرد نتيجة للحظة طفولية بريئة، وذلك عندما أصيبت ابنتها “كارين” بمرض التهاب الرئة، وهي في السابعة من عمرها، في كل يوم، وهي جلسة بجانب سريرها، كانت تلح عليها لقص قصص وحكايات لها،

وفي إحدى المرات سألتها:-“أي الحكايات تريدين؟، فأجابت كارين: قصة بيبي ذات الجوارب الطويلة!”، لقد أخترعت أبنتها هي هذا الاسم في لمح البصر، لهذا لم تسألها أي شيء عنه، فقط بدأت بسرد القصة، ولأن الاسم غريب، فقد سردت قصة غريبة أيضًا، بعد وقت أحبت أبنتها هذه القصة، وأحبها أصدقاؤها، وبقيت ولسنوات تحكي لهم قصص بيبي اليتيمة المتمردة.


ولقد كانت قصة “بيبي ذات الجوارب الطويلة” سببًا في ظهور اسم أستريد لندْجرين بساحة النشر ونيلها درجة العالمية في أدب الطفل، فيما يُعد وصول القصة للنشر في حد ذاته رسالة كفاح، حيث فكرت لندْجرين في البداية بطبعها في شكل كتاب؛ لتقدمه كهدية لابنتها في عيد ميلادها..

ولما اتصلت بإحدى دور النشر، رفضت الدار نشرها في كتاب، فحاولت مرة ثانية، وفي محاولتها الثانية أرسلتها إلى دار أخرى أقامت مسابقة لقصص الأطفال، وبعد فترة اتصلوا بها، وأخبروها أن قصصها فازت بالمسابقة، والموافقة على نشرها، ونشروها في كتاب تحت نفس الاسم “بيبي ذات الجوارب الطويلة”.

ولم يلق الكتاب عند نشره لاحقاً ترحيباً من النقاد، إلا أن جمهور الأطفال استجاب له، وصارت مغامرات الفتاة، ذات القوة الخارقة والتي تعيش على هواها، على كل لسان في السويد وخارجها، وصارت “بيبي” بطلة لسلسلة كاملة من المؤلفات التي تمحورت حولها..

وكان سرّ نجاحها أنها عبَّرت عن حلم الطفل الضعيف القاصر بالحصول على الاستقلالية والحرية وأيضاً القدرة على الفعل، وعن رغبته المكبوتة للتمرد على عالم الكبار وقواعده الصارمة.


وهكذا ظهرت أول وأشهر أعمال أستريد لندْجرين على الإطلاق، والتي بلغت سبعة ملايين نسخة، وترجمت إلى عشرات اللغات العالمية، وانتقلت إلى السينما والمسرح في أكثر من بلد..

فالأطفال الذين قرأوا القصة في أربعينات القرن الماضي، واستمدوا منها الشجاعة والمروءة يعيدون قراءتها اليوم على أحفادهم، ليتواصل تأثير الكاتبة على الأجيال.


لم تقع لندْجرين في فخ الرتابة، فابتعدت عن شخصية بيبي، إلا أنها ظلت مخلصة لجمهور الأطفال، فقامت بتعليم الأطفال من خلال ما كتبته من قصص لهم القدرة على التفكير، وإتخاذ القرار، وحتى التمرد الإيجابي، ولكن المشحون بالأحاسيس النبيلة والتضامن إيضًا، ما أسهم في تربية أجيال من الناس ذوي شخصية قوية ومؤثرة..

حيث تتميز بمخيلة إبداعية استثنائية، كما أنها تملك قدرة قوية على تأثيث قصص الأطفال بما يسحرهم من أشياء مختلفة، إن قارئ أعمالها يحس لا محالة بروح طفولية نابضة وحية، وهذا يدل على صدق تجربة استريد في طفولتها، وكونها بالفعل عاشت طفولة مليئة بالجمال والأحداث الممتعة.

وكتبت عام 1946م سلسلة حول الحياة في الريف بعنوان “كلنا أطفال في بُلربين”، وتلتها بنفس العام سلسلة بوليسية لليافعين بعنوان “المفتش بلومكفيست”، وكتبت في عام 1954م نوع الفانتازيا “ميو مني ميو” حول صبي يحلم في اليقظة هرباً من واقع مرّ إلى عالم خيالي تتحقق فيه أحلامه كافة..

ثم كتبت في عام 1955م ثلاثية “كارلسون على السطح” حول صبي بدين يطير بوساطة مروحة ليذلل الصعاب، وكتبت عن فتاة أخرى بقصة “مَديكن” في عام 1960م، وعن الطفل “إميل في لونبريا في عام 1963م، وحِيَله ومقالبه بطيبة وعفوية محببة، حيث استرجعت فيها طفولتها وحكايات والدها حول طفولته في منتصف القرن التاسع عشر.

لم تبدع لندْجرين كاتبة للأطفال فحسب، بل توجهت أيضاً نحو البالغين، حين عالجت موضوعات ذات بعد إنساني وفلسفي؛ مثل القلق والخوف من الموت..

وكيفية مواجهة ذلك الخوف عن طريق اللجوء إلى عالم الخيال المضيء المليء بالتفاؤل والحب، والأنتصار على الشر، المتمثل في تنين وفرسان يتشحون بالسواد، في “الأخوة قلب الأسد” عام 1963م، وأيضاً في “رونيا بنت قاطع الطريق” 1981م، وهي إحدى آخر رواياتها، حيث تنتصر القوة الكامنة في الرغبة في الحياة على العنف والعداء بين البشر.


فقد استقت كلّ شخصيات مؤلفاتها وحوادثها من خلفية طفولتها في المزرعة التي ولدت وترعرعت فيها، إلا أنها إبتكرت أيضاً شخصيات وأحداثاً من نسج خيال الطفولة الثري، فتقول ليندجرين في إحدى تصريحاتها:- “أنا لم أبدع قصصي من خيال أطفالي، أنا بسهولة كتبت عن طفولتي، وأنا لا أصغي إلا لصوت الطفل الذي في داخلي”، فلقد عاشت استريد وفية لطفولتها التي حملتها معها حتى في شيخوختها، وظهر هذا من خلال التماع عينيها وتمردها وضحكتها الطفولية.


أما عن إجمالي مُحصلة أعمال أستريد لندْجرين، فقد بلغت إنتاجها الأدبي 84 كتابًا للأطفال، وحوالي 40 نصًا سينمائيًا، وعددًا من المسرحيات والكتب الموجهة للقارئ البالغ، وقد تم تحويل أغلب أعمالها إن لم تكن كلها إلى أفلام ومسلسلات تلفزيونية ومسرحيات وأعمال إذاعية مختلفة..

كما ترجمت أعمالها إلى 85 لغة حية في العالم، وبيع من كتبها ما يزيد على 130 مليون نسخة، ونالت العديد من الجوائز العالمية والوطنية، لتكون الكاتبة السويدية بل العالمية الأكثر انتشارًا في القرن العشرين.

ولعل إنطلاقة الكاتبة تكمن إيضًا في مواقفها الإنسانية، وفي إيمانها بحقوق الطفل والحيوان، وبسبب إسهامتها في تثبيت حقوق الأطفال في القانون السويدي، تم تأسيس منظمة “بريس” انطلاقاً من فكرتها لضمان حقوق الأطفال في المجتمع.

ويُذكر في هذا الصدد ايضا مساهمتها في إنشاء أول مكتبة عالمية في أوروبا تحتوي على أكثر من مليون كتاب وبغات العالم المختلفة، وتعد حصة اللغة العربية منها الأكبر، حيث تجاوز عددها 17 ألف كتاب.


أُغدق عليها التكريم من كل صوب؛ فمُنحت ميدالية نيلز هولجرسون  عام 1950م، وميدالية هانس كريستيان أندرسن عام 1958م، وميدالية الأكاديمية السويدية الذهبية عام 1971م، وقد نقلت معظم مؤلفاتها إلى شاشة السينما والتلفزيون.

وقد توفيت لندْجرين عن عمر يناهز 95 عامًا في يناير عام 2002م، فقد يلقب السويديون مدينة فيمربي مسقط رأسها، بمدينة استريد ليندجرين، وهناك بعد وفاتها، تم بناء ساحة كبيرة بجانب منزلها، حيث يلتقي فيها الزائرون على مدار العام بشخوص أبطال قصصها بكامل ملابسهم والأدوات التي يتعاملون بها.

وهكذا استريد لندْجرين غادرت الدنيا، لكن حكاياتها ستبقى تصاحب أجيالًا وأجيالًا من الأطفال إلى عالم أحلامهم، حيث الحياة الممتعة والرائعة، وهكذا تحولت تجربة مبدعة في مجال أدب الطفل، إلى حراك إبداعي عالمي، وعمل معرفي منظم هدفه خدمة الطفولة وإسعادها.