رواية “وادي الدوم”

منذ أن خرج آدم من الجنة وهو وبنيه يبحثون عن الجنة على الأرض، يتهيون هنا وهناك بحثًا عن جنة أرضية تشبه الجنة التي حُرموا منها مؤقتًا والعودة إليها تتطلب جهدًا وجهادًا كبيرًا للنفس. كل منا يبحث عن جنته على هذه الأرض، يبحث عن فردوسه المفقود الذي ضاع منه قبل أن يوجد. “الجنة أرض بكر لم تطأها قدم من قبل” هكذا كان يظن “الشاهين” وظل يبحث ويهيم في الصحاري أيامًا وشهورًا بحثًا عن جنة أرضية سمع عنها ذات يوم من سيده “مهود” الذي أخبره أنه رآها ذات يوم.

أخبره سيده مهود عن واحة تدعى “زرزورة” ليست ككل الواحات، والحياة فيها ليست ككل الحيوات، هي جنة مؤقتة تنتمي بقوة لجنة السماء في تفردها عن بقية بقاع الأرض.

“زرزورة التي لا تنقطع ثمارها. ولا تنضب عيونها. فيؤها خلاب للطير. دوابها زراف وغزلان وحمير برية. أبقارها مُلحمة حلابة. مراعيها ريانة. وشمسها محبة هادئة.لا أحد يجهلها. يوقنون أنها في مكان ما بين ربوتين ربما، أو في سفح جبل، أو أعلى سطح هضبة”.

البحث عن الجنة المفقودة:

“الشاهين” رجل عربي أصيل، يحفظ نسبه إلى سيدنا نوح ويعتز ويزهو بذلك. جُبل على حب الصحاري والخوض في فيافيها دون خوف. في كل مرة كان يخرج فيها للصحراء كانوا يظنونه مات من طول ما غاب؛ لكنه في كل مرة كان يعود. لم يفقد الشاهين أمله يومًا في العثور عن جنته الخاصة، كما يحلم وكما حكى له سيده “مهود”. ضاق الشاهين ذرعًا بواحته “تنيدة” لأنها صارت مأهولة أكثر من اللازم واختلط فيها الحابل بالنابل، وضاعت الأنساب، وتمدنت الواحة وتبدلت طباع أهلها.

تتاح للشاهين فرصة ذهبية بمرافقة بعثة من الخواجات أرسلتها السرايا للبحث عن الطرق المهجورة وبؤر الحياة القديمة، يصحبهم فرحًا فلا شيء أحب إلى نفسه من خوض غمار الصحراء، وبداخله أمل أن يعثر على شيء ما يرشده لجنته المنشودة، بالفعل يعثر على بقعة وسط الصحراء يتخيلها واحته وجنته المرجوة. يُخفي الشاهين أمر هذه الواحة عن مرافقيه ويحتفظ في جيبه ببعض ثمار “الدوم” التي تفيض بها واحته، ويحفظ مكانها ليعود لها مرة أخرى.

“استأنفت القافلة مسيرها نحو الغرب تهتدي بالظل لا الدليل. كان الدليل غائبًا تحت ذاك الجرف يبني واحته حول عين الماء، يرعى حلاله في كلئها وينثر شجر الفاكهة في تربتها، وحين يلتقطه صوت الكولونيل من جُب هيامه، يُقرر أن يضع خلفه شواهد حجرية كيلا يضل طريق العودة إلى ” الدومة”، واحته الجديدة”.

في الجنة:

يعود الشاهين لواحته التي خبأها عن عيون الأجانب ويقرر أن يبني فيها جنته الخاصة ولا يصحب معه من واحته السابقة كثيرًا، سواء بشر أو أغراض؛ بل كل ما عز وقل، ويقرر الشاهين أن يبدأ في هذه الجنة تمامًا كما بدأ آدم حينما هبط إلى الأرض: بدأ من نقطة الصفر.

” يجمع تقاوي الزروع وفسائل الشجر، ويكمم جذورها. يحتطب من النبت الجاف، ويحزم الوقش ويعد الخيش والحصير وشماريخ البلح. يملأ بدايد حمارين بقشر الفول والعلف. يُجهز عِددًا للحفر والكسر، “تورية” حديد، و”خشانة” و”محش” و”شاقوف” مدبب يكسر الحجر ويشذب حوافه. يتهيأ لسفر طويل لم يقطع مثله رحال ولا دليل”.

تبدلت الأعوام وتحولت “الدومة” من مكان لا يعرف مكانه أحد، يخفيه الشاهين عن مرافقيه ويجعل منه منفاه المنتقى ومُقامه السري إلى مكان مرت به أجناس من البشر شتى: طليان، وإنجليز، ومهديين، وعرب وبدو من قبائل شتى. طالت يد المدنية أبناء “الدومة” فصاروا لا يعدون نسائها جميلات، وصارت العادات والتقاليد ثقيلة على قلوبهم، وتسللت التكنولوجيا إليها شيئًا فشيئًا. ودخلت هيئة التعمير الدومة لتمهد الطريق وتربطها ببقية المحافظات، وصارت تابعة لمحافظة الوادي الجديد.

” لم تعد الدومة بعد رحيل الهيئة إلى ما كانت عليه قبل مجيئها، دخلتها مصابيح الغاز ومواتير الرفع التي تعمل بالمازوت وأجهزة ترانزيستور تستقبل بعضًا من إذاعة القرآن الكريم وصوت العرب، ومصدح معدني كبير يعمل ببطارية السيارات ينداح عبر أسلاكه أذان الفجر عاليًا متماوجًا تلتقطه آذان النائمين”.

لو كان الشاهين حيًا إلى ذلك الزمن لحمل متاعه ورحل إلى أرض بكر أخرى ينشئها كيفما أحب، ولا يصحب معه فيها إلا من يحب، ولإخفاها عن العيون، وعاش فيها سيدًا مالكًا لا ينازعه في حكمها أحد، ووحده يرسم حدودها؛ لكنه رحل ورحلت معه جنته وصارت الدومة مكانًا أرضيًا عاديًا يشبه بقية بقاع الأرض.

البنية السردية للرواية:

الرواية تتبع بنية سردية معقدة بعض الشيء؛ فلا تسير الأحداث بتسلسل زمني معين ولكنها حكايات متناثرة هنا وهناك، حدث في الحاضر يجلب حدث من الماضي، وماضٍ يصيغ حاضرًا. الأشخاص في “وادي الدوم” ليسوا هم محور القصة؛ بل هم عناصر تكمل بعضها بعضًا وتربط الوقائع التاريخية ببعض في تناسق زمني غير مترابط. كذلك الأحداث لم يتم سردها بطريقة تقليدية فنجد الحدث الواحد صيغ أكثر من مرة، لأكثر من راوٍ، وبأكثر من وجهة نظر. اللغة أيضًا ليست تقليدية فهي لغة شديدة المحلية بمفرداتها ومزاحها وحتى السباب. الأسماء كذلك جاءت غير تقليدية ومستوحاة من بيئة الرواية وتشبه قيظ الصحراء، وكان اختيارها في منتهى الذكاء والدقة.

فالشاهين طائر صحراوي يُقال له الجوال لكثرة هجراته، ويمكن العثور عليه في أي مكان في الكرة الأرضية ما عدا القطبين. وصبرنا اسم غير تقليدي لامرأة؛ لكنه كان لائق بصبرنا التي قهرت قلوب الرجال جميعًا، وتمنعت عن الزواج وحينما تزوجت كان لآخر غير الذين هاموا بها، حسنها وتمنعها وزواجها كلها أمور كانت تستدعي الصبر والجلد من رجال وادي الدوم فكانت صبرنا، وقد يكون اسمها مستوحى من اسم نبتة الصبار المكسوة بالشوك والتي لا تسمح لأحد بالاقتراب منها. مهود اسم المفعول من هاد، وقد كان كذلك لأهل واد الدوم في حياته، إذ كانوا يسترشدون برأيه في كل كبيرة وصغيرة، وبعد موته باتوا يعدونه مخلصهم وملاذهم ويتبركون بضريحه. ظل المهود رغم موته وهدم ضريحه لأكثر من مرة أسطورة أهل وادي الدوم التي يختلقونها اختلاقًا، ويرونه مباركًا ووليًا من أولياء الله وهاديهم للصواب حين يضلوا.