يوتوبيا

ماذا يحدث عام حين تنقسم مصر إلى عالمين، الأول مجتمع فاحش الثراء، والآخر مجتمع تحت خط الفقر، وانقراض الطبقة الوسطى؟! “المساواة في الثراء يقابلها المساواة في الفقر!” هذا ما يستطيع الكاتب الكبير الراحل “أحمد خالد توفيق” التنبؤ به في رواية “يوتوبيا“، مع إبراز التناقض الشديد الذي مهد له باقتباس عن “برتولت بريخت”:

حقًا إنني أعيشُ في زمنٍ أسود، الكلمة الطيبة لا تجدُ من يسمعها، والجبهة الصافية تفضح الخيانة، والذي ما زال يضحك لم يسمعْ بعدُ بالنبأ الرهيب.. أي زمنٍ هذا؟

يوتوبيا للكاتب أحمد خالد توفيق

المجتمع الأول هو “يوتوبيا”، حيث أنه مصطلح يصف الدولة الفاضلة، حيث يكون كل شيء مثاليًا للبشر، وتكون كل قيم العدل والمساواة متوفرة، وجميع الشرور مثل الفقر والبؤس والأمراض غير موجودة. هذا الوصف والعديد من الأشياء الجميلة، وأصل الكلمة كان في كتاب “اليوتوبيا” المنشور عام 1516 من تأليف “توماس مور”، واعتمد في أفكار مدينته الفاضلة على أفكار أفلاطون في كتاب “الجمهورية“، وبينما يتساوى سكان يوتوبيا في الثراء، يتساوى سكان أرض الأغيار في الفقر.

المستعمرة المحاطة بالأسوار، وتقع بالساحل الشمالي على طريق اسكندرية مطروح، ويحرسها جنود المارينز، ويعيش بها علية القوم من الأثرياء، الذين استولوا على ثروات البلد وقضوا على الطبقة الوسطى بجشعهم، ينعمون بالنفوذ والمال والمتع المنحرفة والمحرمة، تخلص جيل الشباب من منطق الدين، بينما يلجأ له الكبار ليتظاهروا بالورع الكاذب.

هناك منطقة للمولات، ومنطقة للقصور المملوكة للرجال المحتكرين للسلع الأساسية قصر مراد بك ملك الدواء وابنه بطل الرواية، قصر ملك الحديد وملك اللحوم.. ثم المطار الداخلي الذي يستخدموه للهرب إن ثاروا الناس بالخارج، تعمل سياراتها وطائراتها بالبايرول المادة الكيميائية التي صنعتها أمريكا، وأعطتها لمصر لمدة خمسين عامًا مقابل شراء آثارها ولم يعد للبترول قيمة.

لا يوجد حكومة ويتم حل النزاعات الداخلية بجلسات عرفية بين كبار المدينة ذو المصالح المشتركة، وبالتالي لا يتعرضون لبعضهم البعض، إلا عن طريق الخطأ في أمور تافهة حيث أنهم أفرزوا القوانين الخاصة بهم، فكل شخص يفعل ما يحلو له ما لم يؤذي الملكية الخاصة بغيره.

لعبة الصياد والفريسة

تبدأ رواية “يوتوبيا” لمؤلفها الكاتب الكبير “أحمد خالد توفيق”، بحكي الشاب الثري الذي يدعى فيما بعد علاء، عن مشهد محاولة تسلل أحد الأغيار إلى عالم يوتوبيا مثل صرصار يفر على جدار المطبخ، ويتم قتله من خلال الحارس الأمريكي بالهيليكوبتر، بينما يسقط وهو يجثو على ركبتيه وينظر لأعلى ليأخذ نفسه الأخير على طريقة ملصق فيلم الفصيلة، معلنا سقوط القيم والأخلاق واعتلاء الصراع كقيمة عظمى، بينما يبدو الموت هو الحقيقة الوحيدة في ذلك العالم الهش، وهو النتيجة الحتمية لشكل التعايش الوحيد.

في خلال خمسة فصول للرواية بين بطل من عالم يوتوبيا وبطل من الأغيار (مجتمع الفقراء). يبدأ الفصل الأول بعنوان الصياد الذي يمثله الشاب الثري المادي، الذي لا يؤمن بمعنى أو قيمة خارج ملذاته الدنيوية، رغم أنه قرأ وعرف الكثير إلا أنه لا يهتم بالتاريخ أو السياسة، فهو يهمه فقط اللحظة الحالية؛ لذلك فهو يتعامل مع طبيب إسرائيلي، ويملؤه الضجر من الحياة المليئة بالملذات والانحراف في المظهر، فيستخدم وشم الجروح في الجسم لأنها مثيرة، يمارس الجنس بشره، يعاشر كل فتاة تروق له، يتعاطي مخدرات العصر الفلوجستين، الذي يساعد على الشعور بالنيران الفاتنة.

لكن يملأه الضجر والملل، ويشعر أن يوتوبيا أصبحت مثل سجن أو معتقل نازي، لأنه يشعر بانعدام الإثارة، حيث أنه قد جرب كل شيء، ولا ينتحر لأن هذا الفعل يبدو سوقيًا مثل الفقراء، ولا رقابة من أبوه أو أمه عليه، لكن بقى شيء واحد يريد أن يجربه بعد أن فعله بعض الناس من يوتوبيا وأصدقاءه لكسر الملل والرتابة، وهي مغامرة الصيد، والمفارقة أن الصيد هنا ليس صيد الطيور أو الحيوانات، لكن صيد البشر من الأغيار في دلالة على عدم اعتبارهم بشرًا من الأساس، حيث يقوم أحد سكان يوتوبيا بالتسلل إلى مدينة الأغيار، وقتل أحدهم والاحتفاظ بجزء من جسده، كتذكار يشهد على حكاية مسلية يتباهى بها.

يبدأ علاء مع عشيقته جرمينال هذه المغامرة، ينجحان في الاستيلاء على ملابس قذرة وإثبات شخصية لعامل وعاملة من الأغيار يتخفيان بهما، حيث يعمل العامل والعاملة في يوتوبيا وتنقلهم السيارة للخارج ليلًا، يدخلان إلى عالم الأغيار، شبرا المنطقة التي لم يريها إلا في الأفلام القديمة، يمشيان في منطقة السوق ويشمان اختلاط الروائح الكريهة، والأطعمة الشعبية المقززة مثل بيع جلود الفراخ، والثياب المتسخة، يخرجان من السوق ليمروا على المساكن من العشش الصفيح، والأرض التي تطفح بها المجاري، والنساء القبيحات يمارسن البغاء، يختار علاء إحداهم لتكون فريسته، حيث يدفع لقوادها المال، ويأخذها للخرابة ثم يضربها لتسقط، وقبل أن يتصل بأمه لترسل له من ينقذه ليعود ليوتوبيا معه التذكار، يشاهده مجموعة الشباب ويتعرفون أنه من يوتوبيا.

ما بين يوتوبيا وديستوبيا

في أرض الأغيار الديستوبيا حيث المعيشة مضنية لدرجة أنهم يتشاجرون على الكلاب لأكلها، لا وجود للشرطة أو أي خدمات حكومية حتى الكهرباء والمياه والمجاري، الجميع مغيب ومشغول فقط بقوت يومه والجنس والحشيش والخمر حيث الأخلاق تتآكل في الفقر، بعضهم متدين لأن الدين هو الأمل الوحيد لهم في حياة أفضل بعد الموت، لا يقدر أحدهم على شراء الدواء، وبسبب الجهل يلجأون للوصفات الشعبية التي لا فائدة لها.

في الجزء الثاني (الفريسة) عندما ينتقل السرد للبطل الذي يمثل الأغيار (جابر) يحكي أن يتملكه شعور أنه سيموت بعد يومين، ويتحسر على ما آلت له المعيشة الضنك، جابر من الذين دخلوا كليات منذ عشر سنوات ثم لم يجدوا عملًا، ولم يستطيعوا أن يصنعوا شيئًا بما تعلموه، لكن علاقتهم بالكتب لا تنتهي، يصادق عبد الظاهر البلطجي الجدع الذي يحتمي به من البلطجية الآخرين لأنه لا يملك قوة، يعيش بلا أحلام، يتذكر النساء اللواتي قام معهم بعلاقات وفقد قرنيته بسبب إحداهن، يلعن جابر الأغيار فقد كان يحذر من هذا المصير ويقول:

“عندما تشم رائحة الدخان ولا تنذر من حولك فأنت بشكل ما ساهمت في إشعال الحريق، فهو مختلف عنهم بثقافته وقيمة التي صارت بلا قيمة ويشعر أنه لا ينتمي لهم أو يندمج معهم، رغم أن ظاهره كذلك، ويضطر لبيع الفلوجستين المسروق الذي يأتيه به أحد العمال في يوتوبيا، أخت جابر هي صفية التي يتحمل كل ذلك من أجل حمايتها أن تظل شريفة ولا تتعرض للأذى“.

وكما يصف مظهره علاء (الشاب اليوتوباوي):

أذناه مليئتان بالصماخ، أصابع قدمه تطل من صندل حقير، نظارته ملحومة بالنار، عينه تالفة، غده أسود، طعامه فاسد، كتبه بالية، أحلامه موءودة، أفكاره عتيقة، أظافره مسودة، شعره مجعد معجون بالتراب، أنا لا أفهمه أعتقد أنه من الطراز المثقف في وسط ليس وسطه، الخروف الذي يفكر يصير خطرًا على نفسه والآخرين، أنا أعتبر مثقفًا في يوتوبيا، أنا من القلائل الذين قرأوا كل شيء وقع تحت أيديهم، لكن هذا لا يجعلني أتعاطف معه ذرة، ليست الثقافة دينًا يوحد بين القلوب ويؤلفها، بل هي على الأرجح تفرقها، لأنها تطلع المظلومين على هول الظلم الذين يعانونه، وتطلع المحظوظين على ما يمكن أن يفقدوه، إنها تجعلك عصبيًا حذرًا، دعك من تحول قناعاتك الثقافية إلى دين جديد يستحق أن تموت من أجله، وتعتبر الآخرين ممن لا يعتنقونه كفارًا.

سلطة يوتوبيا العبودية

تبدأ الأحداث في التصاعد، عندما يتعرف جابر على علاء وجرمينال سكان اليوتوبيا، بسبب ثقافته فهو من أول وهلة يعرف أنهما ليس من الأغيار، فلا يظهر عليهم الجوع والوهن والبؤس الحقيقي، بل يظهر عليهم الخوف والدهشة والاشمئزاز، وعندما يشاهد يذهب علاء للخرابة مع الباغية ويتعرف عليه الشباب، ينقذه هو والفتاة لأنه يكره العنف، رغم أنه يعرف أنهم أتوا بغرض الصيد الذي وقع به سابقًا أحد أصدقائه، ويحكي لهم عن الصراع الدائر بين العالمين، حيث سرقوا منهم الماضي والحاضر والمستقبل، ويرفضون أن يتركوهم يعيشون.

يستضيفهم في عشته حيث يعيش مع أخته صفية، هو يتمنى لو ينتقم منهم لكنه لم يقتلهم، لأن هذا الدليل الوحيد أنه ما زال آدميًا ولم يتحول إلى ضبع، ورغم أنه فكر ودبر للاعتداء على جرمينال لأنه يريد أن يقهر طبقة وظروف بأكملها، لكنه لم يستطع فعل ذلك عندما كانت مخدرة أمامه لأنه لم يرى إلا وجه أخته صفية، وسأل نفسه هل هي سلطة يوتوبيا العبودية أم سلطة ضميره، هل هذا لأن يوتوبيا أقوى منه، أم لأنه أقوى منه؟ ثم يبدأ يتلقى تهديدات من البلطجية الذين يعرفون بالقصة، فيخطط لتهريبهم.

نرى أوجه التشابه والتناقض، من خلال الانتقال بين البطلان علاء وجابر، فكلاهم مثقف، وتعتبر القراءة نوعًا رخيصًا من المخدرات والتغييب عن الوعي، لكن علاء لا يعرف عن تاريخه ما يعرفه جابر، كلاهما لديه علاقات نسائية لكن جابر يتذكر علاقاته جيدًا، ويحلم بما يسميه ما بعد الجنس أي الشعور الذي يدوم بعد الممارسة، وعلاء لا يتذكر أيًا منهن ولا يكترث غير بتفريغ شهوته، كل ذلك وباقي الأحداث تخبرنا أن جابر رغم العفن الذي يعيش به ما زال لديه قيمة وبعد أخلاقي على قدر استطاعته على عكس علاء.

القراءة نوع رخيص من المخدرات

اقتباس من رواية “يوتوبيا” لمؤلفها الكاتب الكبير “أحمد خالد توفيق”.

يقول جابر:

“كلانا هنا وهناك نعشق العنف، كلانا هنا وهناك نحب المخدرات، كلانا هنا وهناك نرى أفلام الاغتصاب في نهم، كلانا هنا وهناك نتكلم عن الدين طيلة الوقت، هناك يتعاطون المخدرات ليفروا من الملل، هناك يحترفون الدين لأنهم يخشون أن يضيع هذا كله، وهم لا يعرفون لماذا ولا كيف استحقوه، هنا نتعاطى المخدرات لننسى عذاب اللحظة، هنا نحترف الدين لأننا لا نطيق أن تكون معاناتنا هباءً بلا ثمن، العقل البشري لا يتحمل فكرة مروعة كهذه وإلا جن، لهذا لا أريد دمًا، لا أريد قتلى.

هناك خلل اجتماعي أدى إلى ما نحن فيه، لكنه خلل يجب أن يستمر.. كل من يحاول الإصلاح يجازف بأن نفقد كل شيء“.

بينما تخللت فصول الصياد المعبرة عن “يوتوبيا” مقاطع من أغاني الأورجازم (نوع الموسيقى الجديد المنتشر بين الشباب في يوتوبيا) تحمل الكلمات طابع العدمية وانتصار لمبدأ البقاء للأقوى.

“عندما تنفتح المقابر وتخرج الشياطين

عندما تتناثير جماجم الأطفال في السهول

عندما تتلوث أجنحة الملائكة بالدم وتمارس سندريلا البغاء

عندما يعلن بعلزبول أن الحين قد حان

عندها فقط يمكنني أن أغمض عيني مستريحًا

وأموت..”

كانت تتخلل فصلي الفريسة المعبرة عن الأغيار مقاطع تجسد فكرة الرواية من شعر “عبد الرحمن الأبنودي” السياسي الثوري:

“إحنا شعبين.. شعبين.. شعبين

شوف الأول فين والتاني فين؟

وآدي الخط ما بين الاتنين بيفوت

أنتم بعتوا الأرض بفاسها بناسها

في ميدان الدنيا فكيتوا لباسها

بانت وش وضهر.. بطن وصدر

والريحة سبقت طلعت أنفاسها

واحنا ولاد الكلب الشعب

إحنا بتوع الأجمل وطريقه الصعب

والضرب ببوز الجزمة وسن الكعب

والموت في الحرب“.

كما اعتمد الكاتب “أحمد خالد توفيق” على توثيق احصائيات علمية وتقارير مثل تقرير، هروب المعتمرين المصريين داخل الأراضي السعودية، للدكتور أحمد عكاشة عن الإدمان، وتقرير صحفي في ملتقي لحوار للتنمية وحقوق الإنسان عن جرائم العنف ضد النساء.

اعتمد الكاتب “أحمد خالد توفيق” على توثيق احصائيات علمية وتقارير.

قبل أن يتحركو للهرب، قام علاء باغتصاب أخت جابر العذراء رغم مقاومتها له، ساعدهم جابر للرجوع ليوتوبيا من خلال نفق سري محفور في الصحراء، وعند ارشاده لهما هوى عليه علاء بحجر وقتله ثم اقتلع يديه، فرغم مساعدة جابر لهم إلا أن علاء لم يعتبره إلا أحمق يستحق القتل، ليعود ليوتوبيا بالتذكار الذي خاض المغامرة من أجله.

“لو اجتمعت الخراف الغاضبة على طفل لمزقته تحت أقدامها“.

القشة التي قسمت ظهر البعير

ثم بدأ الاحتفال بهم فور عودتهم وحكى علاء عن جابر الأحمق الساذج الذي لم يستطع أن يفهم قواعد اللعبة، وعن صفية المسلولة التي اغتصبها وقاومت كأنها الملكة كليوباترا، وعندما عاد إلى حياته المكررة، كانت هذه القصة تنتشر بين الأغيار لتشعل نار الغضب من تحت الرماد، وتكون القشة التي تقسم ظهر البعير، ليقوموا بثورة (مهد لها الكاتب أحمد خالد توفيق من خلال الحديث عن خطة عبد الظاهر صديق جابر الذي كان يعتبرها الأخير نوع من الاستمناء الفكري) تبدأ بمهاجمة القافلة الهائلة التي تحمل البايرول عبر الصحراء وتبديله بمياه المجاري، واقتحام يوتوبيا لمهاجمتها بجموع منظمة عبر الصحراء ليتحول الصياد إلى فريسة، بينما يقف قائد وجنود المارينز للتصدي لهم.

تتشابه الرواية المصرية “يوتوبيا” مع رواية “1984” للكاتب “جورج أورويل” في فكرة التنبؤ بالمستقبل، قد يتشابه هذا نموذج جابر مع قصة خالد سعيد، التي اعتبرت قضيته مشعلة لثورة يناير 2011، والواقع أن الكاتب قد تنبأ بشيء مماثل وليس العكس، حيث أنها كتبت عام 2008.

لكن المأخذ في جانب هذا أنه الفترة التي تخليها الكاتب 2023 كانت قصيرة لإحداث هذا الكم من التغيير. بالإضافة لنقطة سلبية رأيتها حضور الكاتب “أحمد خالد توفيق” بشكل قوي من خلال شخصيتيه الرئيسيتين، فنجد اللغة ذاتها متقاربة مع اختلاف الأفكار المطروحة.

كتب PDF ، كتب و روايات PDF ، أفضل تجميعات الكتب، كتب عالمية مترجمة ، أحدث الروايات و الكتب العربية ،أفضل ترشيحات الكتب و الروايات، روايات و كتب عالمية مترجمة.