مقتطفات من كتاب لأنك الله _5

الغفور:

إذا كنت قد تعبت من ذنوبك وخطاياك وشعرت أن شؤمها قد نغص عليك حياتك، وأن ظلاماً وقتامة قد أطفأت في عينيك بهجة أيامك ولياليك، وأنك ما عدت تستلذ بصلاتك، ودعائك، وعبادتك، فاعلم أن الوقت قد حان لتدلف إلى عالم الأنس والمغفرة، متلمساً معاني الغفران والتجاوز في اسم الله: الغفور.

لأن بلاء الروح بالذنب أعظم بكثير من بلاء الجسد بالمرض، روحك تأن تحت وطأة العصيان، نعم قد يكون جسدك استلذ لحظة المعصية، لكن روحك تجأر إلى الله!

ولو لم يكن هناك جنة ولا نار، الذنوب وحدها جحيم، وحميم، وعذابٌ أليم!

هل تعلم أن كل مصيبة من مرض أو وهم أو حزن أو ألم هي بسبب معاصيك؟

اقرأ قوله تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ

كان المسلمون يعتقدون أن إسلام حمار عمر بن الخطاب أقرب إلى المعقول من إسلام عمر! لشدة عداوته للإسلام، وكرهه لهذا الدين، ثم يفتح له الغفور أبواب التوبة ليصبح: عمر الفاروق!

خالد بن الوليد يصعد على جبل الرماة في غزوة أحد ويُقتل بسببه عبدالله بن جبير وصحبه الذين كانوا على جبل الرماة، بل يكون السبب في أعظم هزيمة يُمنى بها الجيش الإسلامي بقيادة النبي ، ويكون السببت في أن يُجرح نبي الله ويشج رأسه وتكسر باعيته وتدخل حِلَق المِغفَر في وجهه الشريف.

ولكن.. يسلم، فيغفر له الغفور، يمسح سبحانه كل تلك الطوام..

ويتحول من السبب الأهم في هزيمة المسلمين في غزوة أحُد إلى: سيف الله المسلول!

وكل تلك الدماء الزكية التي سفكها؟ وحلق المغفر؟ والدماء النبوية الطاهرة؟ كل ذلك غفره الله!

أبو سفيان بن حرب، صفوان بن أمية، عكرمة بن أبي جهل، عمرو بن العاص وغيرهم كثير، كانت ذنوبهم: شركاً بالله، ومحاربة للدين، وقتلاً للصحابة، ثم يغمرهم الغفور الرحيم بمغفرته ليكونوا صحابة! أتدري ماذا تعني كلمة صحابة؟ تعني أفضل البشر بعد الأنبياء!

الإحساس بالذنوب وهي تحيط بك يجعل روحك تأن، وأفكارك تميل إلى اللون الأسود، وكلماتك متوترة جداً، فإذا ما اقتربتْ منها: أستغفر الله احترق الأنين والسواد والتوتر.

فقد سمى نفسه بالغفور لأنك بلا مغفرة ستحترق، ستلتهمك الغصص، ستشعر بالاختناق الحقيقي، ستدمن البكاء.

إذا ظننت أن ذنبك أعظم، اسمع لربك الذي يعلم كل ذنب سيقترفه عباده من لدن آدم وحتى قيام الساعة، يعلم بتفاصيل تلك الذنوب وخطواتها وشناعة أمرها:

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

المهم هو أن تسبق (أستغفر الله) بالإقلاع عن الذنب، أن تتوقف..

كيف تقول: اغفر لي خطئي، وأنت عاكف على الخطأ؟

كيف تُمسح معصيتك، ثم تعود لكتابتها من جديد؟ توقف.. اجعل (أستغفر الله) صادقة، تستحق أن تُفتح لها أبواب السماء.

المفغور لهم.. تدمع عيونهم ولكنهم لا ييأسون من رَوح الله أبداً.. ينامون بالليل في طمأنينة، لأن أغرب توقع هو أن يموتوا؟ وماذا لو ماتوا؟ إنهم بلا ذنوب تجعل الموت شبحاً مرعباً.

ألست مشتاقاً لأن تجد الله غفوراً رحيماً؟ استغفره إذن!!

فالغفور عَلِم أن الذنوب ستفسد عليك حياتك، ستقهر روحك، ستجعل الليل وحشة والنهار ملل، وتفاصيل الحياة وهم، والنوم اختناق، والوحدة بكاء، فقال لك:

أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ

يغفر دائماً.. ويغفر بكرم، ويغفر ما لا يغفره بشر، ويغفر بإدهاش!

يغفر ما بين الصلاة والصلاة، وما بين العمرة والعمرة، وما بين رمضان ورمضان، وما بين الحج والحج إذا ما اجتنبت الكبائر!

ويغفر ما لا يغفره البشر:

فيغفر ذنوب بغيٍّ كل حياتي ذنوب ومعاصٍ بأن سقت الكلب ماء!

ويغفر بإدهاش.. كما حصل لمن حضر غزوة بدر فقد اطلع عليهم ربهم وقال لهم:

اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم!

قال ابن كثير: وفي هذا تنبيه عظيم على فضل أهل بدر، فإن هذا الذي لم يكن في بُحيحة القتال، ولا في حومة الوغى، بل كان من النّظارة من بعيد، وإنما أصابه سهم غرب، وهو يشرب من الحوض، ومع هذا أصاب بهذا الموقف الفردوس الأعلى.. فما ظنك بمن كان واقفاً في نحر العدو.

ابدأ عهداً جديداً مع اسم الغفور، افرح لأنه يغفر الذنوب، وسارع في الاستغفار، وطلب هذه المغفرة يكون باتباع أوامره واجتناب نواهيه.

ألم تمل من الكربات التي بعضها فوق بعض؟ ألا تشتاق للابتسام الذي يخرج من القلب؟ إذن لماذا لا تستغفرونه؟

القريب:

أتشعر بالوحشة؟ هل خذلك صديقك؟ هل تحس أن بينك وبين أعز الناس حجاباً مستوراً، فلم يعد يفهمك كما كان؟ هل روحك تأن شوقاً إلى حبيب تبث إليه لواعجها؟

لماذا لا تنصرف إلى الذي لا يجفو من أتاه متقرباً؟

الله الذي هو أقرب إليك من حبل الوريد، والذي ستغدو حياتك أنساً وسعادة معه، له اسم عظيم، موغل في الجمال، مكلل بالبهاء.

في الوقت الذي يريدك أن تعلم أنه على العرش استوى، يريدك أن تتيقن أنه أقرب إليك من حبل الوريد!

تضيع دابّة أحدهم فيمشي مبهوتاً فيراه إبراهيم بن أدهم فيسأله فيقول: ضاعت دابتي، فيقف إبراهيم ويقول: يا الله، لن أمشي خطوة حتى تعيد لهذا دابته، فإذا بها تظهر من منحنى الطريق!

يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف الليل، ويذهب ليطرق بابَ أٌبي بن كعب، فيخرج أٌبي، فإذا برسول الله يخبره: أمرني الله أن أقرأ عليك الفاتحة، يقول أٌبي بذهول: وسمّاني؟ فيقول نعم، فيبكي أٌبي!

لا تتوهم أنه بعيد، أو أنه تخفى عليه منك خافية، فأقرب ما تكون إليه وأنت ساجد، تتمتم بـ (سبحان ربي الأعلى)، فإذا بالسماوات تتفتح لتمتمتك، وإذا بالجبار يسمعك!

وقربه سبحانه وتعالى قرب علم وقرب سمع وقرب بصر وقرب إحاطة، لا قرب ذات، لأن ذاته العلية منزهة عن مثل هذا القرب.

ينزل سبحانه وتعالى في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا فيقول:

هل من سائلٍ فأُعطيَه هل من داعي فأستجيبَ له هل من تائبٍ فأتوبَ عليه هل من مستغفِرٍ فأغفرَ له

تأتي امرأة تجادل في زوجها، وعائشة رضي الله عنها في طرف البيت تقول إنها تسمع كلمة وتغيب عنها كلمة، وبعد ذلك الجدل ينزل جبريل على محمد أن:

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ

يا له من قرب عجيب، وعلم عظيم، وسمع محيط، وبصر نافذ..

استمع إليه وهو يهدئ من روع موسى عليه السلام عندما أعلن خوفه من الذهاب إلى فرعون فقال له:

إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ

هذا يكفي.. لأنه معهما يجب ألا يخافا من فرعون، يجب أن يكونا شجاعين بطلين شامخين.

ولله معيّتين: الأولى خاصة بأهل ولايته، وهي معيّة محبة ونصرة وتوفيق، ومعية عامة لجميع خلقه وهي معيّة علم وسمع وبصر وإحاطة.

إذا صفعتك المخاوف فابتسم، وتذكر قربه منك سبحانه.. فكل الأشياء التي تخاف منها، ليست أقرب إليك منه!

وإذا التأمت حولك الخطوب فتفائل! وشتتها بفكرة أنه أقرب إليك من حبل الوريد!

إنه القريب.. فقط حرّك شفتيك بذكره، تتفتح أبواب السماوات لصوتك.

كان يونس عليه السلام في بطن الحوت ينادي:

لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

فكان الصوت الضعيف المنطلق من الظلمات الثلاث يخترق أجواز الفضاء لتسمعه ملائكة السماوات فتقول للرب سبحانه:

صوتٌ معروف، من مكانٍ غير معروف!

يقول الله عز وجل في الحديث القدسي:

من ذكرَني في نفسِهِ ذكرتُهُ في نفسي ، ومن ذكرَني في ملإٍ ذكرتُهُ في ملإٍ خيرٍ منه

لأنه قريب، فقط قل يا الله، يكون الرد بأن يذكر اسمك!

ما أجل أن تتخيل أن ملك الملوك في هذه اللحظة يقول اسمك! يقول: عبدي فلان بن فلان يذكرني!

الدنيا كلها تافهة، لا تساوي مثل هذا التخيل..

قريب لا تحتاج حتى تصل إليه إلا أن يخطر ببالك، أن تشعر بقربه، أن تحس بأنه يراك، ثم تقول: يا الله..

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ

أي شخص يسألك عن الله فأول شيء تصف به ربك هو أنه قريب منه! النفوس مفطورة على عدم استعدادها لعبادة رب بعيد، لا يسمع دعائها، ولا يرى حاجاتها، فمن أهم الصفات التي تبتدر بها الذي يريد التعرف إلى الله أن تخبره أن ربه "قريب"، هكذا علمك سبحانه أن تخبر عنه!

وهذا القرب علاوة على أنه يجعلك تحبه، وتأنس به وتخشاه، إلا أنه فوق ذلك يجعلك تدمن على استغفاره والتوبة إليه، فالقريب من جهة يستحق أن يُستغفر ويتاب إليه، لأنه بقربه اطلع على كل غدراتك وفجراتك، ومن جهة أخرى فهو قريب قرباً يجعل استغفارك وتوبتك ناجعة، فلن يغفر لك إلا من سمع استغفارك ولن يتوب عليك إلا من علم توبتك، فهو القريب المجيب، وبعد كل هذا تأمل قوله سبحانه:

فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ

ألا يستحق أن تحبه؟ في اللحظة التي تغلق الباب على نفسك حتى تعصيه، يدخل لك الأكسجين من تحت الباب حتى لا تموت!

وفي أجواء المحن التي تعيشها الأمة، ومن بين أدخنة الحروب المهلكة التي تمس أفئدة المؤمنين باللأواء، يحتاج المؤمن هناك إلى ثلاث مستويات معرفية باسم القريب:

الأول: معرفة قربه سبحانه إيماناً ويقيناً، ليريح نفسه من عناء الصراخ والاستنجاد بالبشر، فيجد آية في القرآن تقول له بوضوح (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ)، يلقي عند أعتابها حُرقات روحه الملكومة، وكل ما سبق يصب في خانة هذا المستوى المهم.

الثاني: ومن بين لهيب القهر، ورؤية تفاصيل الشتات، وتهدم البيوت، وموت الأنفس، يريد رحمة، يبحث عن رحمة، يتمنى رحمة تنهي عذابات خذلان الإخوة، فيقف عند قول الحق سبحانه (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)، ولا يزال العبد ينتقل من إحسان إلى إحسان، وتكون في المقابل رحمة الله أقرب إليه من غيره، حتى تغشاه الرحمة من كل مكان، تنتزعه من أدخنة الموت إلى سحائب الرضا.

الثالث: وتطول الأيام وتتوالى الزفرات، وتشتد البلاءات، ويُحكم الحصار من كل مكان، فترى آية الحق (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)، فيربط الله بذلك على قلوب أضناها الانتظار، وأرهقها الاصطبار، فينتظرون هذا النصر القريب من ليل أو نهار.

اللهم يا قريباً ممن دعاك ورجاك، اكتب لنا قُرباً من رحمتك وهدايتك، قُرباً تؤنسنا به، وتذهب عن أرواحنا وعثاءها، وتدخلنا به الجنة.

وبعد.. فقد عرفتَ شيئاً عن بعض أسمائه، فعليك التزود بمعرفة المزيد عنها وعن غيرها، وأن تجعلها نبراس حياتك، وهداية قلبك، ونور أيامك، لتحوز على سعادة الدنيا والآخرة.

ولي رجاء: إن خفف هذا الكتاب عنك ألماً، أو رسم على ثغرك ابتسامة، أو غير حالك إلى الأحسن فلا تنس كاتبه، ومن أفاده، ومن أعانه، ووالديهم وجميع الملسمين من دعوة بظهر الغيب.

كتب PDF ، كتب و روايات PDF ، أفضل تجميعات الكتب، كتب عالمية مترجمة ، أحدث الروايات و الكتب العربية ،أفضل ترشيحات الكتب و الروايات ،كتب دينية، كتاب لأنك الله .