نستكمل في هذا المقال الجزء الثاني من تحليل رواية الأصل لـ دان براون..
سيصمد الإيمان دومًا
يتنبأ براون على لسان إدموند كيرش بأنّ الإنسان الهجين القادم لن يكون للإيمان ولا للدين أي مُساهمة في بنائه، وهذا برأيي أمر خاطئ، لا سيما أن براون على لسان فالدسبينو قال إنّ الإيمان واجه الكثير مُسبقًا، مِن أيام كوبرنيكوس، إلى غاليليو، إلى داروين… الخ، ومع ذلك بقيَ، فالإيمان دائمًا سيصمد، أما الذي يهتز ويتبدل عبر الزمن هو الدين نعم، الدين موضوعه مختلف بالكامل، فهو يمتد ليشمل جوانب ضخمة جدًا مِن الحياة وعلى عدّة أصعدة، فمن الطبيعي أن يكون عرضةً لعوامل الحت والتعرية كلما تقدّمنا، أما الإيمان موضوعه مبنى على أساس آخر، الإيمان دائمًا ما يصمد لأنه مُرتكز على رغبة في التصديق وعدم الميل نحو التعقيد والاكتفاء بالتسليم المباشر.
«روبرت سابولسكي» عالم البيولوجيا التطورية، و«راما شاندران» أحد آلهة طب الأعصاب السلوكي في عصرنا الحالي يوافقان هذا المنحى كليهما، وفقًا لتعريف الدين لدى راما شاندران فإنّه آلية تطورية دفاعية تكوّنت وتطوّرت مع تطوّر الإنسان –دقق على فكرة أن التطور يُعنى بنجاة الكائن وصفاته المتكيفة مع إهمال للحكم بأصحية الآلية أو خطأها، فلو كانت خاطئة إلا أنها تفيد الإنسان سيستبقيها حتمًا– فالدين هو حجر أساسي في ركن بناء الإنسان، وهذا صحيح لو نظرنا بعين النسر إلى تأريخ الأديان وتسلسلها الزمني، فقبل الثورة الزراعية كان الدين مجرد طقوس ومبادئ روحية متفرقة، أما الدين المنظم المتشعّب فلم يظهر إلا بعد الثورة الزراعية وفيض الغذاء وتعقّد الحياة والحاجة لمفهوم العقد الاجتماعي ومن ثمّ نشوء الحكومة والدولة.
أي أن الدين هو نظام تكيفي تطوّر مع تطوّر الإنسان نفسه، وكلما تراكمت الحياة وتعقدت، ازداد تعقد الدين وتشعّب، لذلك تجده يجمع جوانب مختلفة ويدمجها معًا ويقدم نظام كامل كنظام ويندوز كما قلنا سابقًا، وفي كل فترة يظهر نظام جديد يفرض عليك الترقي، أما مَبحث أن الدين صح أو خطأ فصراحة ستجده بعد تعمّق طويل -خصوصًا في العلم المعروف بتاريخ الأديان- بلا معنى، فالدين نظام يدفعك لبناء تكيف مع البيئة والجماعة لتشكيل وسط مُنسجم، لا يوجد حكم صح وخطأ هنا، يوجد حكم مفيد أو غير مفيد، فكما قلنا، تطوّر لكي تبقى وتتلاءم مع البيئة بغض النظر عن الصحة والخطأ.
نفس الأمر يوافقه سابولسكي عندما يقول أنّ الدين عبارة عن مضاد اكتئاب نشأ مع تطور الإنسان، فمع اكتساب الإنسان للوعي الذي دفعه لطرح أسئلة صعبة بلا أجوبة، جاءت فورًا الحاجة الملحة لمنظومة أيدلوجية تحدد الوعي، وتجيب وتطبطب على ظهر الإنسان فكان الدين، فيمكن القول أنّ الدين هو مضاد اكتئاب ومسكّن آلام طبيعي، أنت نعم مُنحت الوعي كونك الكائن صاحب التطوّر الأعقد، لكن بنفس الوقت حصلت على مسكّن الوعي ومحددّه مِن الطفح المميت وهو الدين –مفهوم الدين كمنظومة ثقافية / اجتماعية / أخلاقية– لا علاقة للادعاءات الميتافيزيقة هنا، حقيقةً الادعاءات الميتافيزيقية هي مَبحث مُختلف تمامًا.
سيصمد الإيمان كونه العنصر الروحي والمُسكّن في الدين، أما مفهوم الدين كنظام اجتماعي سياسي أخلاقي، فهو يتطوّر مع الزمن ومع تطوّر الإنسان وما زال إلى الآن، فالعبودية تم الغاءها، والمرأة أصبحت كالرجل، ولم يعد هناك فروق بين الناس وأجناسهم ولغاتهم، والعلم استلم راية البحث وكشف الحقائق بعدما أنتزعها من أيدي مَن كانوا يحتكروها من قبل، فنعم، الدين لعب حلقة في هذا، إلا أن الإصرار على عدم تطويره، سيجعله يقف في مكانه، ويجعل عجلة التطور تستمر في دورانها لتنتج نظم أفضل كما انتجت الدين من قبل.
يتغير الدين ويتعرض للحت والتعرية مع الزمن، نعم، لكن الإيمان يصمد، الإيمان هو المسكّن الطبيعي، وإلى إشعار غير قريب، لا يبدو أن هناك مسكّن آخر أفضل سيبزغ نجمه.
يتوقع كيرش الإنسان الهجين لن يحتاج لمسكنات ولا أديان، وهو هنا يسلك مَنحى نيتشوي واضح، وهذا أمر معقّد يحتاج لنقاشات مطوّلة، إلا أن الإيمان في نظري لن يكون خاسرًا، على الأقل في الجولات القادمة من المنظور القريب.
مِن أين أتينا؟ لأين نذهب؟
شككت في البداية أن شخصية إدموند كيرش في الرواية تمثل إيلون ماسك في الحقيقة بناءً على المعالم التي رسمها براون له، لكن فيما بعد تبيّن لي بشكل واضح أنّ شخصيّته تمثل بدقة التوجه الفكري الغربي المعاصر، حاولَ براون أن يجمع فيه كل ميزات ومواصفات الشخصيات الحقيقية التي ذكرَ أسماءهما في روايته، حالة شبيهة جدًا بشخصية عالمة الفيزياء النووية التي ساعدت «ليغاسوف» في مسلسل تشيرنوبل، على الرغم من عدم وجودها في الحقيقة، إلا أن المؤلّف ابتكرها للتعبير عن كل العلماء الأخلاقيين الذين ساندوا ليغاسوف تلك الفترة.
فإدموند كيرش هو دانيال دينت بطرح أسئلته الفلسفية، من أين أتينا وأين نذهب؟ هو سام هاريس بموقفه الأخلاقي والعصبي تجاه الحوسبة الكمومية، هو دوكينز بتصديقه للتطور والحساء البدائي ورفضه للدين، هو غاودي بمحبته للفن الحديث وليس الكلاسيكي القديم، وأخيرًا هو إيلون ماسك بسيارته ذاتية القيادة الصديقة للبيئة، وكونه رجل أعمال ثري أيضًا وساعي لاقتحام المستقبل بشدة.
فشخصية كيرش هي تجميع لكل الأسماء الفكرية البارزة التي ذكرها في الرواية والتي تمثل المسار الفكري الحالي المعاصر في الغرب خصوصًا.
يرد براون على أسئلة كيرش الفلسفية بطريقة مُبطنة وغير واضحة، وفيما بعد تجده يسوق حجة واهية استغربت مِن كيفية ذكرها في حوار بين لانغدون وأمبرا مُستحضرين الحديث عن إدموند بالقول: لكن هذه القوانين، مَن خلقها؟ مَن خلق هذه القوانين؟
وهذا مثال صارخ على المغالطة المنطقية الشهيرة، المعروفة بمغالطة المصادرة على المطلوب واستلابه.
تفكيكها يكون بحركة واحدة وهي تبديل أداة الاستفهام، فسؤالك بالأداة «مَن» يعني أنك تريد الجواب بـ «هو»، وهذا ما يعني المصادرة على المطلوب والخطأ منطقيًا، أي أنك ضمن صيغة السؤال التي تطرحها تُحدد الشخصية التي تُريد الإجابة بها عن طريق مَن، وهي الذات العاقلة العالمة، الصحيح أن تسأل كيف وجدت القوانين؟ وليس مَن.
جواب هذا التساؤل إن غضضنا الطرف على طريقة طرحه لدى راسل في أن القوانين ليست إلا «وصف» لحالة موجودة في الطبيعة وقابلة للرصد والتعبير الرياضي، تخيّل القانون كشيء يُوضع ويهبط مِن الغيوم وبناءً عليه تنتج الأفعال والحركات الفيزيائية أمر خاطئ، الصحيح أن القانون هو حالة مِن الثبات في الكون في حال توصلك إليها ورصدها تصبح قانونًا لإنك استطعت تحديدها فقط، والسؤال عن وجود «غاية» للقانون مفهوم مُغالط ومحصور في نطاق الفلسفة وحدها، فمع ظهور عصر الكم أُثبتَ بشكل واضح أن هناك أشياءً تحدث بدون أسباب وبدون غايات، وباتجاهات مختلفة، وبدون ترتيب زمني حتى.
لذلك قال الفيزيائي نيلز بور: «إن لم تهزك نظرية الكم، فاعلم أنك لم تفهمها»، لأنها نظرية تقلب كل النظم الفكرية التي أعتقد الإنسان أنها السليمة، وأنها هي وحدها التفكير الصحيح.
لهذا ماتَ آينشتاين غير مُصدقًا للكم، ولطالما كان يقول يستحيل ذلك، «يستحيل أن يكون الاله يلعب النرد هكذا»، لكن في الحقيقة وبعد موته، أصبح الكم واقعًا، ولولاه لما امتلكت الحاسوب والهاتف الذي تقرأ منه الآن، واللا يقين سادَ في الأطوال والأحجام الصغيرة وتبيّن أن الإله يلعب النرد بالفعل، إلا أن الذين يحاولون استخدام المغالطات في الاحتكام لسلطة العلماء يقومون فقط بابتسار اقتباسات من هنا وهناك دون فهم وعلم بالسياق، فإله أينشتاين اللاعب للنرد هو الإله الكمي، الذي تم اثباته بالفعل ودخلَ عصر الحوسبة حاليًا.
مثال آخر لتفهم مُغالطة المصادرة على المطلوب، تخيل أنك دخلت إلى المنزل ووجدت أباك ميتًا، فأنت هنا تقول بدورك: مَن قتل أبي؟ طبعًا لا أحد قتله، فهو مات بشكل طبيعي من تلقاء نفسه، لكن عندما تسأل بـ «مَن» فأنت تكون مُسبقًا مَشحون بأنك تُريد الإجابة بـ «هو»، الصحيح أن تقول كيف مات أبي؟ أو ما الذي حدث؟
قد يعتقد البعض أني أدافع عن الإلحاد، يا أعزائي لا، صراحةً الموجة الجديدة من الإلحاد الذي أحب تسميته بـِ «إلحاد الميمز» لا تستهويني، لكني أنا مع التفكير السليم والمنطقي والمنهجي، وضد استخدام المغالطات المنطقية وألعاب اللغة مِن أجل الاقناع واستهداف مُتقاعدي التفكير وبسيطي المنطق القويم.
لنفترض أننا غضضنا الطرف عن مغالطة لانغدون فيمن خلق القوانين، ولنحاول الإجابة عنها، ستجد أن الموضوع يتعقد أكثر لأن الصيغة الأولية له خاطئة فمع الاستمرار بالتقدم ستشهد كارثة منطقية وليس مُجرد مُغالطة.
– مَن الذي خلق القوانين؟ (هنا أنت تصدّق بمقدمة أولية المُسلّمة بأنّ لكل شي خالق ولنسمي هذه المُسلّمة Ax1).
– الإجابة: الإله خلق القوانين.
– نعود لنفس المقدمة الأولية وحسب Ax1 التي اعتمدت عليها لصياغة سؤالك، نصبح أمام التساؤل التالي:– مَن خلق الخالق؟
(نذكّر مرة أخرى أن التساؤلات هنا كلها خاطئة كونها مبنية على مُقدمة خاطئة، لكننا نحاول أن نغض الطرف لكي نمشي بالأمر إلى آخره ونبيّن إلى أي مدى مِن السوء المنطقي ممكن أن يصل بنا).
– تجيب الغالبية بأن الإله هو الخالق بتعريفه فلا يمكن أن يكون مَخلوقًا، هذه الإجابة تضع الجميع في موقف صعب وهو، ما الدليل «الموضوعي» على أنّ الإله هو الخالق؟ الفجوة بين مفهومي «وجود الإله» ومفهوم «الإله الخالق» فجوة كبيرة تستوجب وجود دليل كبير عن عملية الخلق، فما هو الدليل المطروح هنا؟
إجابة هذا التساؤل الثانوي عبارة عن 4200 دين تطوّروا خلال رحلة البشرية الطويلة، ودليل كل منهم غير موضوعي – أي أنه ليس حيادي قائم بذاته – بل دليل شخصي يعتمد على مفهوم الاستدلال الدائري، أي الاستشهاد بالمصادر الخاصة.
نعود لبداية الأمر، وللسؤال المُغالط مِن أصله الذي لا يجب الإجابة عليه لأن صيغته غير سليمة ولتعرف كيف أن الإجابة تفتح الباب لعش دبابير مِن الأسئلة الخاطئة غير السليمة، إلا أن البعض يستخدمها حججًا كلاميةً وألعابًا لغويةً كما أوضحت، في سبيل إقناع متقاعدي التفكير مِن أي طرفٍ كانوا.
يفتح أيضًا هذا الأمر الباب على موضوع الإله العلمي، أي الذي يتدخل في القوانين وما إلى هنالك، وهذا أمر غير سليم، لأن الإيمان لا يستوجب ذلك، لا أعرف لماذا يحاولون علمنة الإله وأنه يجب أن يكون لديه صيغة فيزيائية وليس إيمانية، هنا نعود لخطأ بروان نفسه في تشبيه العلم والدين باللغات، فأحد هذه اللغات إيمانية تارة وإجبارية تارة والأخرى رصدية مادية، كل منهم يسلك دربًا مُختلفًا بعيدًا عن الآخر، إلا أن العيش المشترك بسلام هو أمر مطلوب لا بد منه، المكان يتسع لكليهما حتمًا دون أن يكونوا على توافق حتى، فالإنسان قد خرج من الغابة منذ زمن، واستحضار صراع بربري إلى عصر المدنية لا يشير إلا إلى نزعة حيوانية مُتأصلة وجب ترويضها.
المملكة السابعة، البيولوجيا الكمية، نهاية الإنسان
سعت رواية الأصل منذ البداية لغاية التنبأ بظهور الكائن الهجين الذي سيمتص الإنسان ويحتويه، ذلك بناءً على علوم حديثة ستثبت جدارتها، كالبيولوجيا الكوانتية القائمة على لا يقينية ولا تحديد في التفاعلات الكيميائية التي تحدث ضمن الخلية، والتي ستؤدي لانبثاق عصر إنسان جديد شبه آلي لا ينتمي للمملكة الحيوانية التقليدية بل للمملكة السابعة الجديدة، مملكة الآلات غير الحية، مُنهيًا بذلك الإنسان العاقل.
منذ مدة كنت أقرأ كتاب اسمه «للجراثيم حكاية» للبروفيسور السوري مصطفى قرة جولي الحائز على دكتوراة في الكيمياء الحيوية والجراثيم مِن جامعة ليون في فرنسا، يتحدث فيه عن كيفية نجاة الجراثيم وتطورها منذ بدايات تشكّل الكرة الأرضية وإلى الآن، يضرب البروفيسور مصطفى مثالًا جميلاً ويشبهه بالإنسان بشكل غير مُباشر، فيقول أنّه عندما نضع للبكتريا غذاءً في طبق بتري نراها تتكاثر بشكل شره ووحشي ممتدةً على كامل الطبق، وما إن ينتهي الطعام ماذا يحدث؟
تبدأ المملكة البكتيرية بالتداعي والموت، بعد أن استنفذت كامل الطعام والغذاء والموارد المتاحة لتحقيق أكبر قدر ممكن من التكاثر والامتداد، قانون الترموديناميكا الثاني نفسه يحصل.
هل أنت مستعد لمعرفة ما هي أعداد البشر؟ وما مدى الزيادة في النسبة السكانية؟ وفي أي مرحلة زمنية «بكتيرية» نحن؟
فيما يتعلق بنهاية الإنسان فالنهاية وشيكة نعم، فمع اشتداد الاحتباس الحراري، والزيادة المرعبة في أعداد السكان، وقلة الموارد التي يحملها هذا الكوكب الصغير، سيُصبح هناك نوع من الانتخاب «الطبيعي / التقني» الإجباري، والذين سينجون هم الدول والشعوب ذات التقنيات الأعلى والأكثر تقدمًا التي ستستطيع مواجهة وكبح هذه الكوارث وإنقاصها، فينقرض الأقل تقنيةً والأكثر تخلفًا بسبب قلة إمكاناتهم.
المثير للاستغراب أنّ مفهوم الدمج التقني عند براون وأن البيولوجيا الكوانتية ستدخل في صلب الإنسان لتمنحه صفات آلية جبارة ادعاء كبير جدًا، وكما هو معروف، الادعاءات الكبرى تحتاج إلى أدلة كبرى، فما هي الأدلة التي قدمها براون على كلامه عدا التشويق والرشق الكبير للمعلومات والدمج الخاطئ لسلسة مفاهيم حديثة وتوجهات فلسفية لا يزال مُختلفًا عليها؟ إضافةً لاستخدامه مغالطات هنا وهناك.
البيولوجيا الكمية على نطاق تفاعلات الخلية الكيميائية خصوصًا النباتية أمر مُثبت بالفعل، لكن ما علاقة هذا بالإنسان؟ وإن حدث كيف سيدخل مفهوم الآلات ضمن الجينات البشرية؟ هل يوجد جينات للآلات؟ وإن حدث ودمجت، ما هي آلية الاستبقاء والانتخاب التي ستحصل؟ خصوصًا أن كائن آلي هجين نصف إلهي لا يبدو أنه سيهتم بالمواعدة والمغازلة وتمرير الجينات.
يُلقي براون ادعاءات كبرى ضخمة بدون أية أدلة يسوقها، مُكتفيًا كما قلنا بالتعريف ببعض أسماء العلوم الموجود فعلًا، ثم القيام بالتشويق، وأن البطل دائمًا يموت ويقتل في منتصف الحبكة، لكي يقول القارئ: أووه لا، يبدو أن سره المخفي حقًا صحيح لذلك تم قتله كي تدفن الحقيقة، إضافةً لاستخدام مبدأ الأنثروبيا العقيم الشبه منفي من أيام كوبرنيكوس ليبرر مركزية الإنسان المُلاحِظ غير الموجودة.
قد يعترض أحدهم ويقول أنّ كلام براون في سياق روائي ويحتمل الكثير من الدمج والخلط في سبيل نجاح الرواية، في الحقيقة هذا التساؤل مشروع وفي مكانه ويحمل شيئًا مِن الصواب، لكن بروان لا يعرّف نفسه كذلك، فمع بداية كل رواية تراه يكتب أن كل المنظمات والشخصيات والأماكن حقيقية، أي أنه يعلم ولو بطريقة غير مُباشرة أن ما يكتبه سوف يتم تصديقه ولو بنسبة ضئيلة، وأن جمهوره سيحاولون بناء أفكار كاملة على ما يذكره في الرواية، ولن يكتفوا فقط بمجرد الخيالات والتشويق وتخيل الأبطال ومغامراتهم كما في الأفلام الكرتونية، لا سيما أن مواضيعه تعتبر ماسة لأكثر الأشياء جدلًا كانت ولا زالت، وهي الدين والعلم والسياسة والجماعات السرية ومن حذا حذوهم، لذلك هو يعلم أي وتر يضرب، ويعرف أنه يقدم محتوى أكثر من روائي تشويقي بكثير، لذلك يتحمّل مسؤولية دقة المعلومات واخطائها.
الشخصيات، الرواية، استحضار دوستويفسكي
لو افترضنا أن شخصيات الرواية وحبكتها تشبه عملية شد ثور ما عن طريق حبل، وأن دقّة الرواية وإحكام حبكتها يكون بتناسب بين مدى حجم الثور الواجب شده وطول الحبل المناسب لذلك، فأعتقد أن دان بروان في أصله، حاول أن يشد أرنب بواسطة حبل طويل يصلح لأن يسحب بقرة كاملة.
لدور جوليان ووالده الملك العجوز محدودية كبيرة وبدون تسليط للضوء عليهم صراحةً، خصوصًا ظهور والد الملك في المشاهد الأخيرة وكشفه للسر وهكذا، المشهد بدا بدون داعي، خصوصًا مثلًا إنه كان يمكن الاستغناء عنه بوصية مكتوبة أو رسالة يتم كشفها للملك جوليان أو شيء من هذا القبيل، لكن ظهور الملك أخيرًا بشكل مفاجئ أعطى للرواية ضعف، بتركيز جزء من الحبكة على شخصية لم يكن لها دور في الرواية من أولها.
حتى الملك جوليان نفسه لم يكن واضح المعالم وبدا أقرب لشخصية مُضطربة غير واضحة.
شخصية الحارسان فونسيكا ودياز بدون أهمية قصوى أيضًا، ويمكن مثلًا الاستغناء عنهما بحارس واحد أو مثلًا استخدام لفظ الحارس الملكي بدون تعريفهما بشكل مُباشر، لا سيما أن الدور المنوط بهم كان صغيرًا ومحدودًا، أمبرا فيدال كان دورها جيدًا، روبرت لانغدون بدا ضعيفًا على غير عادته وذلك لسبب لطيف سأتكلم عنه تاليًا، على العموم كانت شخصيات الرواية مُتناثرة بدون أدوار جوهرية ويمكن الاستغناء عن بعضها، كما قلت هو قام بسحب أرنب بحبل فيل، لعلَ أفضل شخصية كانت من وجهة نظري الأميرال لويس أفيلا، وأعجبني جدًا استخدام أسلوب دوستويفسكي في نحت شخصيته.
مِن المعروف أن أبطال دوستويفسكي الأشرار دائمًا ما يرتكبون الشر الذي لا بد منه، أي أن دوستويفسكي يضع بطله الشرير في موقف لا يصح له فيه سوى أن يكون شريرًا، ولو كنت أنت في مكانه لفعلت نفس ما فعل أيضًا وهذا شي مميز بدوستويفسكي.
فعلَ بروان الامر ذاته بقتل عائلة الأميرال بأكملها بهجوم إرهابي، ورغبته في الانتقام، لا سيما بعد تقاعده مِن الخدمة العسكرية وسنين طويلة من الثبات والتضحية كما وصفها بقوله ذهبت أدراج الرياح، لدرجة أنّ حسابه في البنك خاليًا بدون أية نقود، أي أنه لم يعد لديه شيء ليخسره، بل يريد أن يسترد أمجاده السابقة وبطولاته، لكن هذه المرة في خدمة السماء وليس الجيش، ففعل بدوره ما فعل، لم يكن لديه خيار، كأبطال دوستويفسكي تماماً، وهذا الأمر مميز حقًا.
بالنسبة للحبكة كانت جيدة، لكنها – بالنسبة لي على الأقل – مكشوفة، منذ البداية تقريبًا توقعت أن يكون الذكاء الصنعي هو الوصي القاتل، فالدسبينو كان الشخصية الأكثر اتهامًا وتسليطًا للضوء، لذلك أن يكون هو القاتل سيخل بالرواية ويجعل الحبكة ضعيفة.
جوليان والملك مِن المستحيل أن يكونوا هم، فدورهم كان محدود جدًا والمَشاهد التي تحدثت عنهم قليلة وشبه ضبابية، ووضع براون للحبكة عندهم بدون ذكرهم في روايته أمر معيب جدًا ويضرب في الصميم، تخيّل أن يكون القاتل هو شخصية لم يتم الحديث عنها في الرواية!
لا يبقَ سوا أمبرا فيدال، وهو أمر يمكنك استبعاده بناءً على تتبع سير الأحداث وأنها خارج النطاق وعلاقتها مع كيرش لم تكن مَشروحة أبدًا كي تعطي دافعًا للقتل، لذلك أن تكون هي القاتل ومن ثم يقوم براون بتبرير القتل بالشرح فيما بعد أمر يخل بالرواية أيضًا ويمزق الترتيب الصحيح، لأنه حينها بالإمكان أن يكون القاتل أي أحد، طالما أن القصة سيشرحها براون فيما بعد، بعد موت كيرش.
الدليل الأكبر كان للذكاء الصناعي، إلا أن المجهول الوحيد كان السبب في فعله لذلك، ومع وصولي لآخر 50 صفحة مِن الرواية أصبت بالإحباط، لدرجة أني اعتقدت أن بروان قد ينهي قصتهُ بدون الكشف عن الوصي هكذا، لكن قبل حوالي 30 صفحة من النهاية يكشف براون عن الوصي ويكون نفسه وينستون ويعترف بالحقيقة الكاملة قبل أن يحذف نفسه.
تتجلى أحد نقاط الرواية المميزة في مفهوم الميكافيلية الغير أخلاقية التي اتبعها وينستون، والتي تجسدت في القيام بوسيلة لا شرعية لأجل تحقيق غاية مُبرمجه كيرش، ألا وهي القتل من أجل إيصال الحقيقة لكل الناس وزيادة عددهم، النقطة الثانية التي أعجبتني أيضًا كما قلت لكم قبل قليل ضحالة شخصية لانغدون في الرواية، والسبب هو أن براون أراد أن يُظهر لنا شكل الإنسان الهجين القادم عن طريق الدمج بين روبرت لانغدون ووينستون كحزمة واحدة ضمن الرواية، أي أن روبرت لانغدون المعروف لم يكن فقط روبررت لانغدون وحده في الرواية، بل معه وينستون، لذلك هو الوحيد الذي تم استبقاء السماعة على رأسه بينما تخلَ عنها الآخرون في إشارة إلى أنّه أقرب ما يكون للإنسان الهجين الذي تنبأ به بروان.
فتجزئة شخصية لانغدون لقسمين من أجل بيان فكرته العامة أمر لطيف يُحسب له وفي صالحه.
الحقيقة أن براون كاتب بارع في السرد والوصف، فهو يزور كل البلدان والأماكن والمتاحف التي يتحدث عنها في روايته ويوثقها بشكل شخصي، وإن دققت في كلام لانغدون خلال الرواية تجده دائم التكرار لعبارة ذاكرتي البصرية، وهي صراحةً لا تشير للانغدون بقدر ما تشير لدان بروان صاحب الذاكرة البصرية الواضحة التي تتجلى في وصفه الدقيق لكل المتاحف والمباني والطرقات التي يعرضها في روايته، وهذا كما قلنا أمر يحسب له ويقوّي مِن أسلوبه أكثر.
لكن – وكعادته – يذبح براون بعض الحقائق ويخلطها بشكل أجوف في سبيل تعويم غاية التشويق الروائي وفغر أفواه القراء، مُقدمًا بشكل طائش مجموعة مِن العلوم الحقيقية في اسماءها كما يقول في مُقدمة روايته، لكن بمفاهيم خاطئة تخدم أهداف الرواية لا الحقيقة، مُغالطًا بارتكاب أخطاء منطقية، ومُدعيًا لأفكار كبرى جدًا دون تقديم أي أدلة كبرى مثلها تثبتها، لا سيما أنه يتوقع ظهورها في المستقبل القريب وليس البعيد.
ثمّ يقوم بقتل الشخصيات الرئيسة صاحبة الحبكة مِن أجل أن يقول القارئ، أووه لقد مات، إذن ما يخبأه صحيح وواقعي، فلماذا إذن يتم اغتياله إن لم يكن مُحقًا؟
مُتحولةً بذلك الرواية التي أمامنا إلى عبارة عن تشويق
كامل مَنزوع الحقائق الصريحة، مرشوقةً بكم كبير من المغالطات والادعاءات والمبادئ المدموجة
بشكل اعتباطي، مُعطيةً إيانا رواية مُتهافتة، تجده يطرح في أسلوبها فكرة عميقة وصعبة
ومن ثمّ يهرب بسرعة ليطرح فكرة أخرى صعبة بدون أية أدلة أيضًا، وهكذا مع التي بعدها،
على عجلة وبدون أية إثباتات، وكأنه يحاول إخفاءها عنك.
الأصل ، دان براون