مقتطفات من كتاب لأنك الله _2

اللطيف:

إذا أراد اللطيف أن يصرف عنك السوء.. جعلك لا ترى السوء، أو جعل السوء لا يعرف إليك طريقاً.. أو جعلكما تلتقيان وتنصرفان عن بعضكما وما مسّك منه شيء!

اسم اللطيف.. ستكتشف لو تأملته أن لا مستحيل في هذه الحياة، وأن الله قادر على كل شيء، وأن أحلامك المستحيلة ستغدو ممكنة التحقق إذا ما طرقت باب اللطيف!

واللطف أصله خفاء المسلك ودقة المذهب، فلن يوصل إليك إحسانه برفق إلا من يصل علمه إلى دقائق الأمور وخفايا النفوس، فالله سبحانه "هو المحسن إلى عباده في خفاء وستر من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم أسباب معيشتهم من حيث لا يحتسبون".

وتأتي بلطفه عظائم المقادير والتي تستبعدُ أكثر العقول خيالاً وقوعها، فيجعلها كائنة حاضرة، فلا تنتبه إلا –وبقريب من المعجزات- قد بات بساحتك! لا تعلم كيف أمكنه أن يحدث، وتتيقن أن حولك وقوتك أقل من أن تُحدثه، فتنظر إلى السماء وتقول:

(اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ).

فإذا أراد اللطيف أن يكرمك جعل من لا ترجو الخير منه هو سبب أعظم العطايا التي تنالك!

وإذا أراد اللطيف أن يعصمك من معصية جعلك تبغضها، أو جعلها صعبة المنال منك، أو أوحشك منها، أو جعلك تقدم عليها فيعرض لك عارض يصرفك به عنها!

وعباد الله يرقبون تلك الألطاف من اللطيف، ويبصرونها ببصائرهم، وكأن كل قضاء ينالهم به بصمة لطفٍ يدركونها وحدهم.

عندما أراد اللطيف أن يخرج يوسف عليه السلام من السجن، لم يدكدك جدران السجن، لم يأمر مَلَكَاً أن ينزع الحياة من أجساد الظَلَمة، لم يأذن لصاعقة من السماء أن تقتلع القفل الحديدي، فقط.. جعل الملك يرى رؤيا في المنام تكون سبباً خفياً لطيفاً يستنقذ به يوسف الصديق من أصفاد الظلم!

ولما شاء اللطيف أن يعيد موسى عليه السلام إلى أمه لم يجعل حرباً تقوم يتزعمها ثوار بني إسرائيل ضد طغيان فرعون يعود بعدها المظلومون إلى سابق عهدهم، لا.. بل جعل فم موسى لا يستسيغ حليب المرضعات!

بهذا الأمر الخفي يعود موسى إلى أمه بعد أن صار فؤادها فارغاً!

ولما شاء اللطيف أن يخرج رسولنا عليه الصلاة والسلام ومن معه من عذابات شِعب بني هاشم لم يرسل صيحة تزلزل ظلم قريش، فقط أرسل الأرَضَة تأكل أطراف وثيقة الظلم وعبارات التحالف الخبيث! فيصبحون وقد تكسرت من الظلم العُرى، بحشرة لا تكاد ترى!!

تنام فيحب أن تقوم تصلي بين يديه، فيرسل ريحاً هادئة تحرك نافذتك، أو طفلاً من أسرتك يمر ويحدث ضوضاء بجوار غرفتك، أو حاجة شديدة في شرب شيءٍ من الماء، فتستيقظ وتنظر إلى الساعة، وبعد دقائق تكون واقفاً على السجادة تناجيه ولا تعلم أنه هو من أيقظك!

تخطط لمعصيته، تخرج ليلاً، تفاصيل الخطة محكمة، فجأة تمر سيارة من بعيد، فتشك أنت أن أحدهم يراقبك، فتنغّص تلك السيارة المارة فكرة الذنب لديك، فتبرد إرادتك وتعود إلى بيتك، ولا تعلم أنه هو من صرفك بلطفه عن معصيته!

ولا بد للطيف أن يكون عليماً، فكيف يكرمك ويمن عليك ويهديك بلطفٍ من لا يعلم مكامن هذا اللطف؟

يقول الشيخ السعدي: "وهو اللطيف الذي أحاط علمه بالسرائر والخفايا، وأدرك البواطن والخبايا".

ها هي رؤيا من أعظم رؤى البشرية يراها يوسف عليه السلام وهو في حالة تقول كل مؤشراتها الطبيعية باستحالة تحققها! يحكي رؤياه فيقول:

(إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ).

تأويل الرؤيا أن أباه وأمه وأخوته الأحد عشر سيسجدون له إكراماً له!!

كيف وأبوه نبي كريم، كبير في السن، ولا تقضي معهودات الأمور أن يكرّم الصغير الكبير، وأخوته يكرهونه فكيف سيسجدون له، بل إن كرههم دفعهم لإلقائه في البئر..

لكن اللطيف سبحانه يقدر الأقدار، ويصرف الأمور ويخرجه من السجن، ويجعله في منصب رفيع، ثم يقدّر القحط على البلاد، ثم يأتي بإخوته في ثياب الحاجة، وما تزال أقدار اللطيف تلتف  لتحقق تلك الرؤيا القديمة، فيعجب يوسف لسجود والديه وإخوته ويقول:

(وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي).

هذا اختصار للطف الذي سيطر على المشهد ثم يضع التوقيع النهائي فيقول: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ).. نعم إنه اللطيف إذا أراد شيئاً هيأ له أسبابه بكامل اللطف وتام الخفاء، حتى أنه ليقع ما يستحيل في العادة ألا يقع! لأنه الله اللطيف الخبير.

تأمل حبة الخردل.. إنك لا تكاد تراها إن لم تكن محدقاً فيها: انظر إلى حجمها بالنسبة لكفك، ثم بالنسبة لحجم الغرفة مثلاً، ثم بيت، ثم قارن حجمها بدولتك، ثم بالأرض، ثم بالسموات الفسيحة، ثم ثق: إن أرادها الله فسيأتي بها: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ).

وإننا بعد هذا الإبحار الهادئ مع هذا الاسم العظيم، والذي لم نأت إلا على شيء يسير من معناه، وبقي من خبايا معناه ما أتركه لفهمك وتأملك ورجوعك لكتب أهل العلم فيه.

وبعد هذا الإبحار، ألا يستحق هذا اللطيف أن تحبه؟ أن تتأمل عطاياه؟ أن تزيد في قلبك من ذكره ومراقبته ورجائه وخوفه؟

أن تعيش مع هذا الاسم أياماً.. تدعوه به، وترقب ألطافه، وتفيض عيناك لرؤية خفي هداياته وهداياه؟

قل في خشوع: يا خفيّ الألطاف.. نجّنا مما نخاف.

الشافي:

هل رضّتك الأوجاع؟ وأتعبتك الآلام؟ وأشعرك المرض أن الحياة رمادية اللون؟

ما رأيك أن أطلعك على شيء يغسل روحك من أوصابها وأتعابها؟

إنه اسم الله الشافي.. اسم لنفسك المنهكة أن تلتقط أنفاسها قليلاً، لتقرأ عن هذا الاسم الرحيم، هذا الاسم الذي ستعلم بعد أن تتفيأ ظلاله مقدار حاجتك إليه، ومقدار بعدك عنه أيضاً!

الشافي من أسماءه سبحانه التي نحمده عليها، نحمده أن تسمى بهذا الاسم، واتصف بصفة الشفاء، وأن كان هو وحده من يشفي ويعافي أجساد عباده، وهو اسم يفصح عن معناه، ويعكس ظاهره خبايا باطنه.

الحياة حقل أمراض، وأوجاع، وتنهدات، لذلك فقد سمى الله نفسه بالشافي، لتسجد آلامك في محراب رحمته، وتنكس أوجاعك رأسها عند عتبة قدرته.

المرض فضيحة كبرى تُبتلى بها غطرسة البشر! ذبول مفاجئ يفقد فيه الإنسان ازدهاره! نكسة لحيوية ذلك الهَلوع المَنوع..

قدّر الله على هذا الجسد أن تنطفئ نضارته مؤقتاً، حتى يقتنع الإنسان بضعفه، وبأنه لا حول له ولا قوة.

أيها الإنسان، إن حقيقتك الموت، وإن كل شيء فيك يشبه الموت، نومك موت، مرضك موت، انتقالك إلى مرحلة عمرية موت للمرحلة السابقة، فالشباب موت الطفولة، والكهولة موت الشباب، ومع ذلك فإن الوهم يجعلنا نعتقد أننا مخلدون ولهذا يصرخ المرض بأجسادنا، أنها إلى زوال!

روحك وأنت مريض تكون في اجتماعات مغلقة مع الموتى، وبدايات الانهيار الداخلي تنضح بها عيناك وشفتاك وارتجاف في أطرافك الباردة.

ولما يأخذ المرض مداه، وتنغسل أنت من الدنيا جيداً، يأذن الشافي سبحانه للداء بالانصراف عن جسدك، ويأمر الصحة أن تعاود سيرتها الأولى، فإذا باللون الوردي يتصعد على وجنتيك، وتعود ابتسامة أذبلتها أيام الرُخَصاء.

لأنه الشافي: يشفيك بسبب، ويشفيك بأضعف سبب

ويشفيك بأغرب سبب، ويشفيك بما يُرى أنه ليس سبب، ويشفيك بلا سبب!

لا يريد منك سوى العودة إليه، أن تتلمس الطريق المؤدي إليه..

عد إليه بالرضا، عد إليه بالسجود، عد إليه بالتوبة، عد إليه بالاستغفار، عد إليه بالصدقة، عد إليه بالاعتراف..

اطرق بابه ثم ارتقب الشفاء، ليس هناك مشفى في الدنيا يداويك إذا لم يشأ الله ذلك، ليس هناك طبيب في العالم يستطيع أن يشخص مرضك، إلا إذا أراد الله ذلك.

قدرة ملك الملوك على الشفاء لا تحتاج إلى مبضع جرّاح، إنه الملك الذي ينظر من علياء ملكه، فيشفي مريضاً، ويسعد مكروباً، ويعيد مسافراً ويبرئ جريحاً.

يمرضك لتعود إليه فإذا عدت رفع المرض إذ أنه لم يعد للمرض فائدة!

يمرضك لتشعر بالآخرين فإذا شعرت بهم رفع عنك المرض لأنه لم يعد للمرض فائدة!

الشافي الذي لن تحتاج إذا أردت الدخول عليه إلى موعد مسبق، وبطاقة تؤهلك للعلاج..

فقط قل: يا الله، فإذا بأعظم مشفى إلهي تفتح أبوابها، إنها مشفى الرحمة والقدرة واللطف والشفاء.

من الذي يقدر على أن يلأم تلك العظام المتنافرة، ويعيد البسمة إلى ذلك الثغر؟ وينفخ الروح من جديد في جسد انفتحت له أبواب المقبرة؟

الله وحده من يقدر على ذلك!

أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، الذي جاء ربه بقلب سليم، سليم من أي ذرة شرك قد تعتري قلباً ضعيفاً، يقولها عليه السلام فيفهم المؤمن الدرس ولا يلتجئ إلا للحي الذي لا يموت:

وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ

هو وحده، لا أحد سواه يشفيني، لن تحتاج إلى غيره إذا أراد شفائك، ولن يفيدك غيره إذا لم يرد!

يرض الجدري جسد أيوب عليه السلام، تتشتت أسرته، تتبعثر أملاكه، أكثر الناس تفاؤلاً يفقد الأمل في شفائه، وهو صابر محتسب! تشتعل الأسقام في جسده وهو منكس الرأس لمولاه، وبعد سنوات البلاء، يند من شفتيه دعاء حيي، دعاء منكس رأسه بذلة، دعاء ممتلئ باليقين:

أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ

فإذا بأبواب السماء تنفتح بالرحمة،  وإذا بالأوامر العليا تنزل من فوق السماء السابعة لأجل ذلك المهموم المكروب.

تنتهي سنوات العذاب في ساعة، ليأتي عهد الشفاء!

لماذا تثق بكل هؤلاء الموتى الذين يتحركون حولك، وتنسى الحي الذي لا يموت؟

من الذي خدعك وأقنعك أن الشفاء قد يأتي من طريق آخر؟

كيف ضحكت عليك الحياة بهذه السرعة، ونسيت ذلك الذي أخرجك من بطن أمك بدون طبيب، وخلق لك في صدرها رزقاً حسنا، وعلمك وأنت أجهل ما تكون كيف تزم شفتيك على صدرها لترضع؟ أنسيت الذي خلق الرحمة في قلب تلك الإنسانة لتضمك؟ وتعتني بك؟

ها هو سبحانه بالمرض يذكرك بأيامك الأولى، بالمرض يقول لك: عد إلي، فكما خلقتك من عدم فأنا وحدي الذي أرفع عن جسدك السقم!

إذا رضيت عن الله أرضاك الله..

المرض من أقسى اختبارات الرضا، فإذا كانت إجاباتك في هذا الاختبار راضية، كانت النتيجة مرضية بإذن الله.

قد يسأل البعض: كيف أرضى بالمرض وفيه الألم المكروه فطرة؟ يجيب الإمام ابن القيم عن هذا قائلاً:

(لا تنافي في ذلك، فإنه يرضى به من جهة إفضائه إلى ما يحب، ويكرهه من جهة تألمه به، كالدواء الكريه الذي يعلم أن فيه شفاءه، فإنه يجتمع فيه رضاه به، وكراهته له).

قل من بين آهاتك ما أمر به نبيك أمّته أن تقول:

رَضيتُ باللهِ ربًّا، وبالإسلامِ دينًا، وبمحمَّدٍ نبيًّا.

قلها بقلبك، اجعل قلبك يتنفس الرضا، اجمع يديك واتل اسمه في دعائك، ثم امسح على جسدك.

اجعل المرض بداية عهد جديد تتعرف فيه إلى ربك من خلال اسم الشافي.

كتب PDF ، كتب و روايات PDF ، أفضل تجميعات الكتب، كتب عالمية مترجمة ، أحدث الروايات و الكتب العربية ،أفضل ترشيحات الكتب و الروايات ،كتب دينية، كتاب لأنك الله .