التفاوت الطبقي نموذجًا!

يشغلني، وربما شَغَلك من قبل، سؤال ما هي ملامح الشخصية المصرية القديمة؟ هل يمكن أن نعرف ذلك عن طريق الأدب؟  وتحديدًا من أدب الراحل “نجيب محفوظ“؟ ما العيوب التي كانت في الشخصية المصرية قديمًا؟ أم أن أيام زمان كانت أيام خير خالية من العيوب مثلما سمعنا من أجدادنا وآبائنا؟ يعتبر الأدب من أهم الأدوات التي تساعد على كشف المجتمع وتعريته أمام نفسه.

يرتبط الأديب دائمًا بالمجتمع الذي يعيش فيه، يعيش داخله ويتأثر به، يأخذ مادته الفنية منه؛ ليبرز التفاوت الطبقي والأمراض المنتشرة فيه، محاولًا وضع العلاجات لها.   

نجيب محفوظ

روائي وكاتب ولد عام 1911، في مصر, القاهرة (وتوفي عام 2006)

نجيب محفوظ مؤلف وكاتب روائي عربي، له العديد من الروايات المشهورة والمترجمة إلى عدة لغات.

وهو العربي الوحيد الذي فاز بجائزة نوبل للآداب.

التفاوت الطبقي في أدب نجيب محفوظ

ولقد شغل التفاوت الطبقي في العصر الحديث الكثير من الكُتّاب المُحدثين، بداية من الدكتور “محمد حسين هيكل” في أول رواية عربية ناضجة كان اسمها “زينب“؛ حاول فيها معالجة الثنائية المصرية المشهورة: من يعملون في الأرض من الفلاحين والإقطاعيين. وأيضًا العميد طه حسين في روايته “دعاء الكروان“.

أما نجيب محفوظ، فقد ترك إرثًا كبيرًا من الروايات والقصص القصيرة التي كان لها دور مهم في تطور الرواية العربية، وكشف المجتمع المصري أمام نفسه. كانت كتاباته بمثابة تأريخًا لفترات مختلفة في تاريخ مصر، وتصويرًا حيًّا للحياة المصرية بكل ما فيها من تناقضات ومفارقات؛ حيث صوَّر محفوظ ملامح الشخصية المصرية قديمًا، والتي كانت من آفاتها الطبقية والتفاوت المادي والفكري بين أفراد المجتمع.. فكيف أبرز محفوظ تلك الآفة؟ هذا ما حاول الإجابة عليه الدكتور يحيى الأزهري في كتابه “التفاوت الطبقي في أدب نجيب محفوظ” الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2017، وهو ما سنحاول عرضه في هذا المقال.

أولًا، رحلة إلى المجتمع المصري: كيف نقله إلينا نجيب محفوظ؟

رواية القاهرة الجديدة: 

تعتبر رواية “القاهرة الجديدة” من أهم الأمثلة على إظهار التفاوت الطبقي في المجتمع المصري؛ حيث نجد البطل وهو “محجوب عبد الدايم” الشاب الجامعي الفقير الذي ينظر حوله فيدرك الانهيار والفساد في المجتمع بسبب التفاوت الطبقي بين فئات وطنه، تصيبه الأمراض النفسية والخلقية؛ فيفقد توازنه ومبادئه وعقيدته. فتعمل الرواية على تصوير واقعي للقاهرة الضعيفة، أو لأبناء القاهرة الذين نبتت جذورهم في عصور الضعف والانهيار والاستعمار وهيمنة العلاقات الإقطاعية.

فهذه الرواية تجسيد لقاهرة الموظفين والطلبة، والتيارات الفكرية المُقبلة من أوروبا. قاهرة المثقفين وأزمنتهم؛ حيث كان الضياع الفكري هو السمة البارزة على أرض القاهرة الجديدة.

وكان التفاوت الطبقي حاضرًا في نظر محفوظ باعتباره سببًا في مأساة المجتمع المصري؛ فساد ورشوة، وتزييف لكل شيء، دعارة وجنس واستسلام.

تبدأ الرواية من نقطة الارتكاز، حيث الجامعة المصرية وبداية عصر التقدم الحضاري.

في فناء الجامعة تبدأ الأحداث؛  تتصارع الأفكار الناشئة بين الطلاب بفرض أن الجامعة ستكون حقل التجارب والأفكار.

مثّل محفوظ لهذه الأفكار في الرواية بأربعة من الطلاب كلٌ منهم يشير إلى اتجاه فكري معين، ليوضح التفاوت الفكري والمادي بينهم، وهم:   

الأول، المتفوق شديد التديُّن، لا يفكر في القضية الوطنية ولكن يفكر في القضية الإسلامية ويجد في الإسلام الحل، ليس عضوًا في جماعة الإخوان المسلمين لكنه بذرة صالحة ليكون من مؤسسي هذه الجماعة في المستقبل. الثاني، طالب مُثقف ميسور الحال، اعتنق الاشتراكية ودفعته ظروفه في النهاية إلى أن يُكرس حياته وكل جهده في سبيل الاشتراكية.

الثالث، صحفي يجمع بين الدراسة والعمل في الصحافة، يعرف أخبار المجتمع وخباياه، ولا يُظهِر ميولًا سياسية واضحة.

أما الأخير، فهو الأهم، بطل الرواية، فهو يمثِّل الفردية في أقصى امتداد خطوطها المنطقية، فقد أزاح عن نفسه كافة القيم والثوابت الدينية والأخلاقية؛ ولكنه آمن بالفرد والذات والنفس التي يحبها أكثر من الدنيا ومن فيها.

رواية خان الخليلي:

تحاول رواية “خان الخليلي” الكشف عن الشعب الكادح، وعن القيم التي تسوده. فترفع الغطاء عن شريحة من البرجوازية الصغيرة التي لجأت إلى حي خان الخليلي، واحتمت به من خطر غارات الحرب العالمية الثانية، لتصوِّر السلبية والضياع اللذين كانت مصر عليهما أثناء الحرب؛ فتظهر الكثير من جوانب الفساد التي أحدثتها الحرب في الأخلاق والقيم. صوَّر محفوظ انعكاس حوادث الحرب في حياة أسرة “أحمد أفندي عاكف” الموظف بالدرجة الثامنة في وزارة الأشغال، الذي يضطر إلى الانتقال من مسكنه بحي السكاكيني حيث مذابح الإنجليز، ليلوذ بجوار الحسين، هربًا من الغارات.

“سُبحان الذي يُغَيِّر ولا يتَغيَّر!”… كان هذا المفتاح الأساسي لفهم موضوع الرواية، أن الحال لا يدوم ولا يبقى، الحياة في تغيُّر مستمر، والسلطة لا تدوم لملك أو حاكم، والغنى يزول والأمان سُرعان ما يتحول لقلق ورعب، كما كانت حياة مصر طيلة عمرها.

كانت العائلة مطمئنة لمسكنها في السكاكيني ولا ينوون الرحيل منه، وما هي إلا عشية وضحاها حتى صرخت الحناجر: تبًا لهذا الحي المخيف.

وإذ بالبيت القديم في السكاكيني يضحى ذكرى، والبيت الجديد في خان الخليلي يصبح حقيقة. فيقولون: سُبحان الذي يغير ولا يتغير. 

عرض محفوظ حال الطبقة الوسطى، والتي راحت تنمو نتيجة التغيُّرات الاجتماعية في تلك المرحلة.

عرض نماذج في روايته واقعية للمجتمع المصري في تلك المرحلة، وما كانت تعانيه الطبقات من آفات اجتماعية، كالجهل والفقر والمرض.

وتعتبر الرواية خطوة أخرى في مشروع محفوظ التأريخي للوضع الاجتماعي للقاهرة في القرن العشرين.

الثلاثية:

تعتبر الثلاثية (بين القصرين – قصر الشوق – السكرية) أحد أهم أعمال محفوظ، حاول فيها إبراز التفاوت الطبقي من خلال الأحداث والمواقف المختلفة؛ حيث يعيش السلطان أو الملك وحاشيته في برج عاجي لا يرى معاناة شعبه من الفقر والجهل والإذلال نتيجة الاحتلال الإنجليزي، وننتقل لطبقة الباشاوات التي جاءت كالبعوض من كل مستنقع تمتص دماء الشعب، ثم طبقة البرجوازية التي تحوي فئة التجار وأصحاب الدخول المتوسطة الذين يعيشون حياة كريمة، والطبقة الدنيا التي كانت تضم جميع أبناء الشعب من الفلاحين والموظفين والحرفيين وطلاب العلم ومن لا مهن لهم ولا عمل.

السمان والخريف: 

أما في رواية “السمان والخريف” فتحكي الرواية عن التغيرات السياسية التي حدثت بعد ثورة يوليو 1952، فنرى فيها معاناة أحد الأفراد الذين كان لهم قوة ونفوذ في عهد الملكية، فأصبح شريدًا  في العهد الجديد، فتحول من الطبقة الأرستقراطية إلى الطبقة الدنيا، حتى أنه تزوج من امرأة لا يعرف عنها شيئًا من أجل الطعام والشراب، وأراد الهجرة من مصر بعد هزيمته وهزيمة حزبه.

ثرثرة فوق النيل:

وفي رواية “ثرثرة فوق النيل” رغم أن ثورة يوليو جاءت لتعالج آثار التفاوت الطبقي على المجتمع، إلا أن بعض رجال الثورة قد انحرف عن ذلك وعمل على زيادة هذه الآثار، وعندما رأى المثقف ذلك ولم يستطع أن يعمل ما يُصلح به مجتمعه، هرب ليثرثر فوق النيل مع المنبوذين أمثاله، الذين جعلوا من تدخين الحشيش ومجالسة المنحرفات تسلية وهروبًا من مرارة الواقع.

ملحمة الحرافيش:  

في حين نجد، رواية “ملحمة الحرافيش” تحمل معاناة الطبقة الكادحة التي تعيش في الحارات والأزقة والأحياء الشعبية المكتظة بأعداد كبيرة من الفقراء والمعوزين، والقارئ لملحمة الحرافيش يجد الصراع بين طبقة الأغنياء والفقراء، حيث سيطرة الفتوات على الجميع طمعًا في الثراء والمنصب والوجاهة.

ثانيًا، البحث عن الذات: كيف رسم نجيب محفوظ شخصيات رواياته؟

 كانت الشخصية في كتابات “نجيب محفوظ” هي محور البحث والعمل الأدبي الذي يريد من خلاله غرس القيم التي يريد بثّها في المجتمع، يحاول الكشف عن عيوب المجتمع ووضعها تحت المجهر؛ وذلك من خلال الشخصيات التي يُحمّلها أفكاره وقضايا مجتمعه.

وبالنظر إلى الشخصيات عند محفوظ نرى تناوله للمرأة والرجل بمختلف مستويات كل منها، وإشارته للبطل الإيجابي وكذلك البطل السلبي، البطل الساقط والبطل الناجح… إلخ.  

الرجل في أدب نجيب محفوظ: 

تناول “نجيب محفوظ” عنصري المجتمع: المرأة والرجل. كتب عن كل الفئات، المتعلم والجاهل، المتدين والعربيد والروحاني، البطل والجبان، كل الشخصيات التي تكوِّن مجتمعنا. وسنحاول أن نُلمّ بملامح كافة شخصياته التي كانت عاكسة لشخصيات المجتمع: مثل الرجل المثقف، الذي تناوله بصور مختلفة، وصوّر المشكلات التي تواجه هؤلاء المثقفين في حياتهم، والرجل الضائع التائه الذي يبحث عن نفسه وذاته، مثل المثقف الضائع، أو الجاهل الضائع بلا ثقافة ولا تربية تساعده على النهوض. والأب، والموظف المثالي والمرتشي… إلخ.

المرأة في أدب نجيب محفوظ:         

شغلت المرأة في روايات “نجيب محفوظ “مساحات كبيرة تناول من خلالها الأوضاع السيئة للمرأة المصرية؛ خاصةً أثناء الاحتلال البريطاني لمصر. ومن الأمثلة على ذلك:

أولًا، المرأة الفقيرة: المرأة الفقيرة التي تعاني من الجهل والحرمان والضياع، حيث أن المرأة عورة لا يحق لها التعلّم ولا يحق لها المشاركة في أي شيء، فقط هي كانت آلة للمارسة الجنس والإنجاب ورعاية ذكور المنزل.  

ثانيًا، المرأة في الطبقة المتوسطة: لعل انتماء نجيب محفوظ إلى الطبقة المتوسطة كان عاملًا أساسيًا في تشكيل قدرته البارعة في وصف ورسم تلك الشخصيات التي تنتمي إلى تلك الطبقة. وهو نفسه لم يجد حرجًا في التأكيد على ذلك بقوله: أنا كاتب الطبقة المتوسطة لأني من الطبقة المتوسطة.  

ثالثًا، المرأة الأرستقراطية: وصف محفوظ حال بعض النساء في هذا الوقت اللواتي يتمتعن بالثراء والحسب والنسب المتوارث، ووضَّح التباين الشاسع بين أحوالهن وأحوال الطبقات الفقيرة.  

رابعًا، المرأة الأمّ: صوَّر في أعماله صورًا متباينة للأم؛ فنجده تارة يصور الأم التي تستطيع أن تحافظ على أسرتها وأولادها وتتحمل سوءات زوجها، وكذلك التي لم تستطع التحمل. والأم التي تكون شديدة التدين وتحاول زرع هذا في أولادها، والأم التي تساعدهم على الانحلال ولا تعرف كيف تُربي. 

وأخيرًا، ما سبب كل تلك الأمراض؟ يرى “نجيب محفوظ” أن الأزمات الاقتصادية والارتفاع المفاجئ في الأسعار وتهديد الناس بالموت في كل لحظة؛ جعلهم لا يفكرون في غير اللحظة التي يحيونها. أيضًا الحاجة الشديدة والخوف من الموت، الذعر والخوف الذي سببته الحروب. كل هذا وأكثر كان السبب في ظهور آفات المجتمع، والتي سببتها الحروب والقمع والخوف والجهل والمرض، لا يرى “نجيب محفوظ” حلًا لهذه الأزمة؛ سوى العدالة المجتمعية. إننا نحتاج روح العدالة الاجتماعية؛ العدالة قيمة إنسانية بين أبناء البشر جمعيًا، حتى الأغنياء الذين تتم على حسابهم، إذ يتحولون إلى أناس أفضل لو كانوا يعلمون.

كتب PDF ، كتب و روايات PDF ، أفضل تجميعات الكتب، كتب عالمية مترجمة ، أحدث الروايات و الكتب العربية ،أفضل ترشيحات الكتب و الروايات، روايات و كتب عالمية مترجمة.