أربعون عامًا  في تصنيف كتاب !!

 

نقل الذهبي عن أبي عبيد القاسم بن سلاّم قوله:

مكثت في تصنيف هذا الكتاب 40 سنة (وهو غريب الحديث) وأحدكم  يجئني فيقيم عندي 4 أشهر، فيقول: قد أقمت الكثير!

وأبو عبيد القاسم بن سلاّم ولد سنة 157 عالم لغة، ومحدث، وفقيه، وإمام من أئمة الجرح والتعديل عاش في القرنين الثاني والثالث الهجريين، وترك عددًا من الكتب الكثيرة، أشهرها (الغريب المصنف) و(غريب الحديث)، يقول عنه السبكي في الطبقات الشافعية: صاحب التصانيف الكثيرة في القراءات الفقه واللغة والشعر.

ويعلل أبو الطيب اللغوي كثرة مؤلفات أبي عبيدة: "بأنه يسبق بمؤلفاته إلى الملوك فيجزونه عليها، فلذلك كثرة مصنفاته"، توفي أبوعبيد سنة 224.

وغريب الحديث، يقصد به: ما خفي معناه من المتون لقلة استعماله ودورانه على الألسنة، بحيث يبعد فهمه ولا يظهر  إلا بالتنقيب عنه في كتب اللغة.

قال الإمام النوي: غريب الحديث: هو ما وقع في متن الحديث من لفظة غامضة بعيدة من الفهم لقلة استعمالها.

وقد نشط العلماء في التصنيف في غريب الحديث في وقت مبكر، وذلك حين دعت الحاجة إلى هذا اللون من التصنيف، حيث تفشت العجمة واختلطت الألسنة، ووجد الجهل بوجوه كلام العرب وغمضت معاني الكلمات.

والمؤلفات في غريب الحديث كثيرة جدًّا، ومن أراد الاستقصاء في شرح الغريب، فعليه بكتاب غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلاّم - رحمه الله - فهو من الأئمة الثقات، وكتابه من أنفس الكتب، وأوثقها، وإن كان الأصمعي يرى أن في الغريب خمسة وأربعين حديثًا، لا أصل لها أُتِي فيها أبو عبيد من أبي عبيدة معمر بن المثنى، فإن ابن درستويه يرى أن أَبا عُبَيْد جمع عامة ما فِي كتب العلماء قبله، وفسره، وذكر الأسانيد، وصنف المسند عَلَى حدته، وأحاديث كُلّ رجل من الصحابة، والتابعين عَلَى حدته، وأجاد تصنيفه، فرغب فيه أهل الحديث، والفقه، واللغة لاجتماع ما يحتاجون إليه فيه .

وممن ألف في الغريب من معاصريه أبو عبيدة معمر بن مثنى، توفي سنة 210، وهو دونه في الثقة والمرتبة.

ومن المؤلفات في الغريب كذلك (غريب الحديث) للنضر بن شميل، توفي سنة 203، و(الفائق في غريب الحديث) للزمخشري، توفي سنة 358، وغريب الحديث للخطابي، توفي سنة 388 ...

وغيرها: ومن أجمعها كتاب النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، وقول أبي عبيد: مكثت في تصنيف هذا الكتاب (غريب الحديث) 40 سنة، قال ابن الأثير جمع كتابه المشهور في غريب الآثار، الذي صار - وإن كان  آخرًا -  أولاً لما حواه من الأحاديث والآثار الكثيرة، والمعاني اللطيفة، والفوائد الجمة، فصار هو القدوة في هذا الشأن فإنه أفنى فيه عمره وأطاب به ذكره.

ولو لم يصل إلينا من هذه الكتب غير كتاب أبي عبيد القاسم بن سلام لكنها وصلت إلى الخطابي كما يظهر من قوله:

التالي الذى يجدر بالذكر لكى نعرف نوعية هذه الكتب ومبلغ أثرها فيما ألف في العصور التالية فقال الخطابى:

"منها كتاب أبي عبيدة معمر بن المثنى وكتاب ينسب إلى الأصمعي يقع في ورقات معدودة وكتاب محمد بن المستنير الذى يعرف بقطرب وكتاب النضر بن شميل وكتاب إبراهيم ابن إسحاق الحربى وكتاب أبي معاذ صاحب القراءات ... وغيرها إلا أن هذه الكتب على كثرة عددها إذا حصلت كان مالها إلى الكتاب كالكتاب الواحد، إذ كان مصنفوها لم يقصدوا بها مذهب التعاقب وسبيلهم فيها أن يتوالوا على الحديث فيعتوروه فيما بينهم ثم يتبارون في تفسير يدخل بعضهم على بعض.

وقوله: مكثت في تصنيف هذا الكتاب 40 سنة. فإن متعة العلم ولذته لا تعادلها لذة، فهو أعلى اللذات العقلية مرتبة، قال أبو عبيد: وربما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال، فأضعها في الكتاب فأبيت ساهرًا فرحًا مني بتلك الفائدة.

وهذه الملازمة لتأليف هذا الكتاب، فتحت لأبي عبيد بابًا، لكسب الثقة الباحثين عن الحقيقة الساعين وراءها. قال عبيدالله بن عبدالرحمن السكري: قال أحمد بن يوسف - إما سمعته منه، أو حدثت به عنه - قال: لما عمل أبو عبيد كتاب (غريب الحديث) عرض على عبدالله بن طاهر، فاستحسنه، وقال: إن عقلاً بعث صاحبه على عمل مثل هذا الكتاب لحقيق أن لا يحوج إلى طلب المعاش، فأجرى له عشرة آلاف درهم في الشهر. كذا في هذه الرواية، عشرة آلاف درهم.

قال ابن درستويه: ولأبي عبيد كتب لم يروها، قد رأيتها في ميراث بعض الطاهرية تباع، كثيرة في أصناف الفقه كله، وبلغنا أنه كان إذا ألف كتابًا أهداه إلى ابن طاهر، فيحمل إليه مالا خطيرًا...

والفرح بحصول المعلومة، مما تطرب له النفوس المتعلقة بالكشف العلمي والسبق المعرفي، الذي يكدح الذهن ليصل إلى الحقيقة، روى المدائني، عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء، قال: كنت مستخفيًا من الحجاج بن يوسف الثقفي، فسمعت قائلًا يقول: مات الحجاج ربّما تجزع النفوس من الأمر له فرجة كحلّ العقال.

قال أبو عمرو بن العلاء: كنت هاربًا من الحجاج بن يوسف، فصرت إلى اليمن، فسمعت منشدًا ينشد:

يا قليل العزاء في الأهوال     وكثير الـهــمــوم والأوجــال

لا  تضيقنّ في الأمور فقد     تكشف  غماؤها  بغير احتيال

 صبّر النفس عند كلّ مهمّ     إنّ في  الصبر  حيلة المحتال

ربّما تجزع النفوس من الأمر له فرجة كحلّ العقال قيل: والفرجة: من الفرج، والفرجة: فرجة الحائط. فاستطرفت قوله: فرجة، فأنا كذلك، إذ سمعت قائلًا يقول: مات الحجاج، فلم أدر بأي الأمرين كنت أشد فرحًا، بموت الحجاج، أم بذاك البيت:  وزاد فيه: أن ثعلبًا قال: إن أبا عمرو كان يقرأ: إلا من اغترف غَرفةً، وفَرجةً، بفتح الفاء، شاهد في هذه القراءة.

وممن فرح بالعلم وحصوله على المعرفة، الزمخشري إذ قال:

سهري  لتنقيح  العلوم  ألذ  لي

                             من  وصل  غانية وطيب عناق

وتمايلي  طــربا  لحل  عـويـصـة

                               أشهى وأحلى من مدامة ساقي

وصرير  أقـلامي  على  أوراقـها

                               أحلى  من الدوكاء والـعـشاق

وألـذ  من  نـقـر  الفتاة  لــدفـهـا

                               نقري لألقي الرمل عن أوراقي

يا من  يحاول  بالأمـاني  رتبتي

                               كم  بين مسـتـغـل وآخـر راقي

أأبيت  سـهـران  الـدجى  وتبيته

                              نوما  وتبغي  بعد  ذاك  لحاقي

وقال ابن قيم الجوزي: "ولقد كنتُ في حلاوة طلَبِ العلم أَلْقى من الشَّدائد ما هو أحلى عندي من العسَل في سبيل ما أطلبُ وأرجو، وكنتُ في زمن الصِّبا آخذُ معي أرغفةً يابسة، ثم أذهب به في طلب الحديث، وأقعد عن نهر عيسى، ثُم آكل هذا الرَّغيف، وأشرب الماء، فكلَّما أكلتُ لقمةً شربتُ عليها، وعَيْن هِمَّتِي لا تَرى إلا لذَّة تحصيل العلم" .

وأخطر مرحلة في مراحل طلب العلم ، مرحلة التصدر قبل التأهل ...

تروي كتب اللغة والتراجم أن أبا الفتح عثمانَ بنَ جني الموصلي، النحْوِيَّ المشهور، قعَدَ للإقراء وتعليم الناس النحْوَ في الموصل، وما زال شابًّا.

ومرَّت الأيام، فمرَّ به أبو علي الفارسي، وهو يدرِّس الناس في حلقته، فسأله أبو علي عن مسألةٍ في التصريف، فقَصَر فيها.

فقال له أبو علي: "زَبَّبْتَ وأنتَ حِصْرمٌ".

فانتبه ابن جني لقصد الشيخ، فترك التدريس، ولازم أبا علي الفارسي أربعين سنةً حتى مَهَر في العربية، وحَذَق فيها عنه، وأتقن الصَّرف، فما أحَدٌ أعْلَم به منه.

ولما مات أبو علي الفارسي، تصدَّر بَعْدَه تلميذه أبو الفتح ابن جني في مجلسه ببغداد، وقعد لتعليم الناس.

والتصدر لا يكون لمن لا تجربة له أو لمن هو حديث سن في سلم الطلب وحلقات الدرس، وهذا ما عناه ابن سلام بقوله: أقمت كثيرًا.

التصدر والتعالم  بينهما تلازم، المتعالم: متصدر قبل أوانه والمتصدر: متعالم يتنمر العلم وبحكي صولة الأسد .

قال الشيخ العلامة بكر أبو زيد رحمه الله في كتابه التعالم: إحذر التصدر قبل التأهل فهو آفة في العلم والعمل وقد قيل من تصدر قبل أوانه فقد تصدى لهوانه.12 انظر التعالم وأثره على الفكر والكتّاب، للشيخ بكر أبو زيد

ورحم الله الشافعي حين قال:

أَخِي لَنْ تَنَالَ العِلْمَ إِلاَّ بِسِتَّةٍ       سَأُنْبِيكَ عَنْ  تَفْصِيلِهَا  بِبَيَانِ

ذَكِاءٍ وَحِرْصٍ وَاجْتِهَادٍ وَبُلْغَةٍ    وَصُحْبَةِ  أُسْتَاذٍ وَطُولِ زَمَانِ

 

 

        

كتب PDF ، كتب و روايات PDF ، أفضل تجميعات الكتب، كتب عالمية مترجمة ، أحدث الروايات و الكتب العربية ،أفضل ترشيحات الكتب و الروايات، روايات و كتب عالمية مترجمة.