تربط الوجودية – لدى سارتر بصورة خاصة – بين الحرية والاختيار والمسئولية ربطًا يجعل من تلك المعاني الثلاثة أساس الوجود الإنساني أينما كان، وأصلًا من أصوله. لقد تعرّضت فكرة الوجودية للكثير من إساءة الفهم، وفي هذه الكلمات نعرض ما أراده (سارتر ) توضيحه بشأن الوجودية التي تُعْلِي من شأن الإرادة الإنسانية، وتركِّز على أن الحريّة شيء أصيل في النفس الإنسانية، وأنّ الإرادة الحُرّة تجعل الإنسان مسئولًا عن أفعاله، وتضعه أمام واجب تحمّل المسئولية.
1- الموضة الوجودية
إنّ أغلب الناس الذين يستخدمون هذه الكلمة سيواجهون صعوبة كبيرة في تفسيرها، خصوصًا لأنها أصبحت اليوم "موضة " تُستخدم في كافة الأوساط الاجتماعية والثقافية، فإذا بنا نرى الناس يَسِمُون بها بعض الفنانين – الرسّامين أو الموسيقيين وغيرهم – باعتبار أنهم وجوديون، ونرى محررًا في صحيفة يوَقِّع باسم "الوجودي ".
وهكذا اتسع مدلول العبارة في الواقع على نحو لم يعد دالًّا على أي شيء.
ومما يزيد الأمور تعقيدًا وجود جنسين من الوجوديين: أوّلهما الوجوديون المسيحيون ذوو العقيدة الكاثوليكية ، وهم الذين يرون أن الإنسان له وجود بشري أصيل؛ حيث له حرية اختيار ما يكون عليه في حياته، ولكن هذا كله يخضع للحقيقة المتعالية الخفيّة وهي الدعامة الأساسية للوجود البشري، ومن هنا أتى تصنيف ( سارتر ) لتلك الفلسفة على أنها "الوجودية المؤمنة ".
ثانيهما : الوجوديون المُلحِدون، وهم الذين اعتبروا أن الحريّة هي المقوِّم المبدئي للذّات الإنسانية، مما يدفعها باستمرار نحو صُنع وجودها على النحو الذي تريد، ومن هنا لا يكون الوجود البشري – بالنسبة لهم – مُكْتَمِلا، وإنّما بمثابة الوجود الناقص الذي يطمح نحو اكتساب ماهيته. فالإنسان إذن مشروع وجود أكثر منه ماهيّة مكتملة.
وما يشترك فيه جميع الوجوديِّين هو أنّ "الوجود يسبق الماهيّة ".
عندما نتصوّر إلهًا صانعًا، فإننا نماثل هذا الإله في أغلب الأحيان بالصانع الأعلى، وبما أننا نقبل دائمًا بأنّ الإرادة تتبع الفهم أو على الأقل تلازمه – أي أنّ الله عندما يخلق يعرف على وجه الدقة ما يخلق - ، فإن مفهوم الإنسان في ذهن الله، مُماثل تمامًا لمفهوم قاطعة الورق في ذهن الحِرَفِّيِّ، والله ينتج الإنسان تبعًا لتقنيات وتصوّر تمامًا مثلما يصنع الحرفي قاطعة لورق طبقًا لتقنيات وتصوُّر؛ إذن فالإنسان الفرد يحقق مفهومًا مُعينًا موجودًا في ذهن الإله.
وعن طبيعة الإنسان وخلقه في نظر الفلاسفة نرى أنهم نظروا إلى الإنسان على أنه يمتلك طبيعة إنسانية، وهذه الطبيعة الإنسانية – التي هي مفهوم الإنسان – موجودة عند جميع الناس؛ فإنسان الغابة وإنسان الطبيعة - مثلهما كمثل الإنسان البرجوازي - خاضعان للتعريف نفسه، ويمتلكان الخصائص الإنسانية نفسها، وهنا تسبق "ماهيّة " الإنسان – أي صفاته ومواصفاته – وجوده.
إن "الوجودية المُلحدة " – التي يمثلّها سارتر وطبقًا لرأيه – هي الأكثر تماسكًا؛ فهي تعلن أنه إذا لم يكن الله موجودًا، فإنَّه يوجد على الأقل كائن يكون الوجود لديه سابقًا للماهيّة، كائن يوُجد قبل أن يكون قابلًا للتعريف وِفق أي مفهوم، وأنّ هذا الكائن هو الإنسان. ولكن، ماذا يعني أن الوجود سابق للماهيّة؟
هذا يعني أنّ الإنسان يُوجَد أولًا، يلتقي بالعالم وينبثق فيه ويتجانس معه ثم يُعرَّف بعد ذلك. وهكذا فلا وجود لطبيعة إنسانية، بما أنّه لا وجود لإله يمكنه تصوّرها. لا يكون الإنسان إلا على نحو ما يتصوره هو عن نفسه، لا يكون الإنسان شيئًا آخر سوى ما يصنعه بنفسه بعد هذه الوثبة نحو الوجود. ذلك هو أوّل مبدأ للوجودية – ( الإنسان صانع نفسه ) وهو ما يُسمّي أيضًا بـِ ( الذاتيّة ) - .
وهكذا فإن أول مسعى للوجودية يتمثّل في جعل كل إنسان متملّكًا لوجوده، ومتحمّلًا المسئولية كاملةً عن وجوده. وعندما نقول إنَّ الإنسان مسئول عن ذاته، فإننا لا نريد القول بأنّ الإنسان مسئول عن فرديته الضيقة فحسب، بل مسئول عن كل الناس.
وهكذا فإنّ مسئوليتنا أكبر بكثير مما نستطيع تقديره إذ تلزِم الإنسانية كلها، فإذا كثنتَ عامِلًا وفضَّلت أن تنخرط في نقابة مسيحية مثلًا، وكنت تريد من هذا الانخراط أن تبيّن للناس أن الحلّ المُلائم للإنسان في الواقع هو الخضوع، وأن مملكة الإنسان ليست على الأرض وإنها هي في عالم غيبي – الجنّة - ، فأنت بذلك لا تُلزِم نفسك فحسب، بل تريد أن يكون خضوعك قدوة للجميع؛ فيكون اختيارك بالنتيجة قد ألزم الإنسانية بأسرِها.
يعلن الوجودي بأن الإنسان كائن قلق، وهذا يعني التالي: إنّ الإنسان الذي يلتزم وينتبه إلى أنَّه ليس من يختار ما يكون عليه فقط، وإنما يختار نفسه في الوقت الذي يختار فيه الإنسانية برمّتها، لن يكون قادرًا عندها على الإفلات من الشعور بمسئولية تامّة وعميقة. ومن المؤكد أن كثيرًا من الناس ليسوا مَهمومين،ولكننا نخالهم يوارون قلقهم ويتهرّبون منه، والأكيد أن الكثير من الناس يعتقدون أن تصرفاتهم لا تُلزِم إلّا ذواتهم، ومتى قُلنا لهم : لكن ماذا لو فعل كل النّاس مثلكم ؟ أجابوا : لا يفعل جميع الناس مثل هذا.
لكن في الحقيقة، يجب أن نتساءل دائمًا: ماذا لو فعل جميع الناس هكذا؟
لا شكّ أن الإجابة ستكون محيّرة ومرعبة، وتجعل كل فرد يُفكِّر مرارًا قبل أن يقوم بأي تصرُّف لا يؤثر على نفسه فقط. فيعيش في حالة دائمة من القلق والتوجّس تجاه كل أفعاله في الحياة. ولا يتعلّق الأمر هنا بقلق يقود إلى الدعة والجمود، وإنما هو قلق بسيط يعرفه كل من حمل عِبء المسئوليات. فمثلًا عندما يأخذ قائد حربي على عاتقه مسئولية هجوم عسكري، ويبعث بعدد مُعيّن من الجنود إلى الموت، وإذا يختار القيام بذلك، وعلى هذا الاختيار قد تتوقف حياة عشرة، أو عشرين رجلًا، ولا يُمكنه أن يتخذ هذا القرار دون أن ينتابه شعور معيّن بالقلق، وكل القادة يعرفون مثل هذا القلق، إلا أنّه لم يكن ليمنعهم من فعله.
وسوف نرى أن هذا الضرب من القلق الذي تصفه الوجودية،من شأنه أن يفسّر أن المسئولية المباشرة تجاه بقيّة الناس ليست ستارًا يفصلنا عن الفعل، بل هي جزء من الفعل ذاته.
"إذا كان الله غير موجود، يُصبح كل شيء مُباحًا ". هكذا قال ديستوفيسكي
وهنا تكمن نقطة بدء الوجودية.
وفعلًا يكون كل شيء مباحا إن لم يكن الله موجودًا، وبالتالي لا يجد الإنسان ما يمكن الانشداد إليه لا من داخل ذاته ولا من خارجها. إنه لا يجد في البدء أي عُذر؛ فإذا كان الوجود سابقًا للماهيّة حقًا فلن ننتظر الرجوع إلى طبيعة الإنسان لنفسِّر أي شيء. فيكون الإنسان حرًّا، بل يكون حرية.
فإذا افترضنا بالفعل أن الله غير موجود، فإننا لن نجد أمامنا قيَمًا أو أوامر تشرّع تصرفاتنا.
"الإنسان محكومٌ عليه بالحريّة " هكذا يقول (سارتر ) موضِحًا: محكوم عليه لأنه ليس من خلق نفسه في حين أنّه مع ذلك يكون حرًا، لأنه بمجرد ما يُلقي به في العالم يكون مسئولًا عن كل ما يفعل، ومسئولًا عن المستقبل أيضًا.
" الإنسان هو مستقبل الإنسان " – مقولة (بونج ) الشاعر الفرنسي - ، وهذا يعني أن أي إنسان يظهر يكون عليه مستقبل ينتظره يجب أن يصنعه بنفسه.
كل إنسان حرٌّ فيما يفعل وفيما سيفعل، هو وحده عليه أن يُبدع ويفكِّر.
لا توجد علامات عامّة أو أسس توضّح له ماذا يفعل وماذا لا يفعل. لا وجود لعلامة في العالم، يجيب الكاثوليكيون: بل توجد علامات.
ولنفترض صحّة هذا، فإنّ الإنسان نفسه الذي يختار المعنى الذي تحمّله هذه العلامة.
ولتوضيح هذا يَسرد ( سارتر ) حكايته مع رجل يسوعيٍّ – أي عضو في منظمة دينية مسيحية تتمسك بتعاليم القساوسة، وتنقاد إلى أوامر البابا – ويبيّن كيف انضم إلى "اليسوعية – بسبب فهمه الخاص لـ ( العلامات )
فيقول عنه سارتر :
واجه الرجل إخفاقات مؤلمة في حياته؛ حيث توفّي والده وهو طفلٌ ترعاه مؤسسة دينية من باب الشفقة والإحسان. أخفق في نيل كل الأوسمة الشرفية التي كان ينالها الأطفال آنذاك، وفشل - عندما أصبح شابًا - في مغامرة عاطفية مرارًا وتكرارًا، وحُرم من التدريبات العسكرية التي كانت شرفًا لكل الشباب.
فلم يجد هذا الشاب تفسيرًا لكل هذه الإخفاقات سوى أنها "علامات ".
ولكن (علامات ) على ماذا؟ فسّرها هو على أنها علامة على أنه لم يُخلق من أجل انتصارات عادية، وأن الانتصارات الدينية والقداسة والإيمان وحدها المُتاحة له. فقد رأى في هذا الأمر وحيًا إلهيًّا جعله ينضمّ إلى المؤسسة اليسوعية.
وعلى فرض التسليم بوجود العلامات، لم لا يكون فشله في جمع أوسمة الطفولة علامة على عدم اجتهاده وعمله؟
ولم لا يكون فشله في العلاقات العاطفية علامة على أنه لم يقابل المرأة التي تناسب شخصه؟
ولم كانت العلامة عنده دالّة على الانتصارات الدينية فحسب؟
لمَ لا تكون علامة على أنه من الممكن له أن يكون أفضل عندما يُصبّح حدّادًّا أو ثوريًا أو أي مهنة أُخري؟.
هكذا يكون الإنسان مسئولًا باختياره عن أي تفسير لأي شيء واقعٍ حوله.
في الواقع، فإنّ الأمور تكون على النحو الذي يقرره الإنسان – أيًا كانت هذه الأمور -. لذا فيجب على الإنسان العمل وعدم الاستسلام للخمول ، طبقًا للمثل القديم "لا حاجة إلى الأمل للشروع في العمل ". وهذا لا يعني التخلّي عن المشاركة في الأحزاب التي تُنادي بالعمل من أجل حياة أفضل والأمل في الغد .. إلى آخر هذه الشعارات الرنانة، ولكن هذا يعني التخلّي عن الوهم والتمتع بالواقعية. فعلى كل إنسان فعل ما يستطيع أن يفعله دون النظر إلى نتاج هذا في المستقبل.
فالخمول هو موقف الناس الذين يقولون بأنّ الآخرين قادرون على عمل ما لا يستطيعون هم عمله، والمذهب الذي تتبناه ( الوجودية ) مناقض تمامًا لهذا، بما أنّه يعلن أن لا حقيقة إلا داخل العمل فليس للإنسان إلّا ما يفعله،
فهو – في حقيقة الأمر – لا شيء سوى مجموعة أفعاله، ولا شيء آخر سوى حياته.
وبناءً على هذا، فإن هذا المذهب يُسبب ضيقًا كثيرًا للذين يقولون بـِأنّ : "الظروف كانت ضدي، وأستحقُّ أفضل مما أنا فيه ".
فمن المؤكّد أنّي إذا لم أتمكّن من الحصول على حب أو صداقة عظيمة، فهذا يعني أنني لم أصادف المرأة أو الرجل الجديرين بذلك، وإن لم أؤلف كُتبًا جديدة، فذلك لأني لم يكن لديّ الوقت الكافي لإنجازها، ويتبقى لديّ إذن مجموعة استعدادات وميولات وممكنات غير موظَّفة وقابلة للاستمرار وهي التي تمنحني قيمة ليس بإمكان السلسلة البسيطة لأفعالي أن تسمح بها.
في حين أنّه بالنسبة إلى الوجودية، لا يتم ذكر فضل شخص إلى بسبب آثاره العظيمة، فمثلًا لا توجد عبقرية إلا تلك التي تتجلى في الآثار الفنية؛ فعبقرية ( بروست ) – كاتب فرنسي شهير – تتجلى في مجمل الآثار الفنيّة التي أنتجها، وعبقرية (راسين ) – شاعر تراجيدي فرنسي – تتجلّي في سلسلة مسرحياته التراجيدية، وفيما عدا ذلك لا يوجد أي شيء.
فحين يلتزم الإنسان بالعمل في حياته تُرسَم له صورة واحدة، وخارج هذه الصورة لا يوجد شيء.
قد يبدو هذا التفكير قاسيًا فعلًا ، بالنسبة إلى من لم ينجح في حياته ولم يُنتج أي شيء، ولكن هذا التفكير يُهيِّئ الناس حتى يفهموا أن الواقع نفسه هو المهم، وأنّ الأحلام والانتظارات والآمال تسمح لهم فقط بتحديد الإنسان على أنّه حلم خائب أو أمل زائف، أو على أنه انتظارات غير مُجدية، أي أنها تُعرِّف الإنسان بالسلب لا بالإيجاب.
ومع ذلك عندما نقول: "لست شيئًا غير حياتك "، فهذا لا يعني أن قيمة الفنان تُقَدَّر من خلال آثاره الفنية فحسب، بل هناك آلاف الأشياء الأُخري التي تساعد أيضًا في تعريفه.
فالإنسان ليس شيئًا آخر سوى سلسة مشاريع، وأنّه يمثّل نتاجها وتنظيمها ومجموعة العلاقات التي تكوّن هذه المشاريع.
إنَّ الوجودية عندما تصف جَبَانًا فإنها تعتبر هذا الجبان مسئولًا عن جُبنه؛ فهو ليس كذلك لأنّ له قلبًا أو رئةً أو مُخًّا جبانًا، بل لأنه تشكّل على صورة جبان بفعل أعماله؛ لأن ما يكوّن الجبن هو فعل التخلّي أو الاستسلام.
فلا يوجد إنسان يُولّدُ جبانًا أو شُجاعًا، كما لا يُوجَدُ إنسان يُولد قويًا أو ضعيفًا.
فالجبان الذي تُقدمه الوجودية يُعد مذنبًا، وهذا ما لا يرضاه منتقدو الوجودية؛ فهم يرون أن الإنسان يُولَدُ مكتسبًا لصفة ما ترافقه طيلة عمره، فإذا وُلد الشخص جبانًا يكون مُطمئنًا لهذا ولا يريد أن يفعل شيئًا ليغير من هذا السلوك، وسيظل جبانًا مدى حياته. وإذا وُلد الإنسان بطلًا فسيكون مُطمئنًا تمامًا أيضًا، ويمضي بقية حياته يفعل كما يفعل الأبطال.
ملخص كتاب الوجودية منزع إنساني