بسم الله خلق الإنسان علَّمه البيان، والصلاة والسلام علي النبي العدنان، وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسان، وبعد؛
فقد اختلف الرواة في أول خطبة خطبها عمر(1)، فقال بعضهم أنه صعد المنبر فقال: "اللهم إني شديد فلِّيِّني، وإني ضعيف فقوني، وإني بخيل فسخني"(2).
وروي أن أول خطبة كانت قوله: "إن الله ابتلاكم بي وابتلاني بكم بعد صاحبيّ، فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فآلو فيه عن أهل الجزء - يعني:الكفاية والأمانة- والله لئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساءوا لأنكلنّ بهم"، فقال من شهد خطبته ورواها عنه: فوالله ما زاد على ذلك حتى فارق الدنيا(3).
وروي أنه لما ولي الخلافة صعد المنبر وهَمَّ أن يجلس مكان أبي بكر فقال: "ما كان الله يراني أرى نفسي أهلاً لمجلس أبي بكر". فنزل مرقاة فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "اقرءوا القرآن تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر يوم تعرضون على الله لا تخفى منكم خافية، إنه لم يبلغ حق ذي حق أن يطاع في معصية الله، ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم: إن استغنيت عففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف"(4).
وفي رواية أخرى أنه بعد يومين من استخلافه تحدث الناس فيما كانوا يخافون من شدته وبطشه، وأدرك عمر أنه لا بد من تجليه الأمر بنفسه، فصعد المنبر وخطبهم فذكر بعض شأنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته -رضي الله عنه-، وكيف أنهما توفيا وهما عنه راضيان، "ولكنها (أي: شدته) إنما تكون على أهل الظلم والتعدي، ولست أدع أحدًا يظلم أحدًا أو يتعدى عليه حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمي على الخد الاخر حتى يذعن للحق. وإني بعد شدتي تلك أضع خدي لأهل العفاف وأهل الكفاف، ولكم عليَّ أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذوني بها: لكم عليَّ ألا أجتبي شيئًا من خراجكم، ولا مما أفاء الله عليكم إلا في وجهه، ولكم علي َّ إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه، ولكم عليَّ أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم -إن شاء الله تعالى- وأسد ثغوركم، ولكم عليَّ ألا ألقيكم في المهالك ولا أجمركم (أبقيكم في جبهات القتال بعيدين عن الأهل طويلًا) في ثغوركم، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم، فاتقوا الله عباد الله، وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحضاري النصيحة فيما ولَّاني الله من أمركم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم"(5).
وجاء في رواية: "إنما مثل العرب مثل أنف اتبع قائده، فلينظر قائده حيث يقوده، أما أنا فورب الكعبة لأحملنَّهم على الطريق".
ويمكن الجمع بين هذه الروايات إذا ما افترضنا أن عمر -رضي الله عنه- ألقى خطبته أمام جمع من الحاضرين فحفظ البعض منه جزءًا فرواه وحفظ الآخرون جزءًا.
وإذا ما أمعنا النظر في هذه الخطبة -محللين لها- نجدها ترتكز على دعامتين أساسيتين هما: حراسة الدين، وسياسة الدنيا.
أولاً: حراسة الدين
نظر الفاروق عمر -ككل الخلفاء الراشدين- إلى الخلافة على أنها ابتلاء سيحاسب على أداء حقه وليس جاهًا وشرفًا واستعلاء.
تكفَّل الخليفة بالدفاع عن الأمة ودينها، وسد الثغور، ودفع الخطر، غير أن ذلك لن يتم بظلم المقاتلين.
تعهَّد الخليفة بأداء الحقوق المالية كاملة من خراج وفيء، لا يحتجب منه شيئًا، ولا يضعه في غير محله بل سيزيد عطاياهم وأرزاقهم باستمرار الجهاد.
طالب الرعية بأداء واجبها من النصح للخليفة والطاعة له والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتشيع الرقابة الإسلامية في المجتمع.
نبَّه إلى أنه لا يعين على ذلك إلا بتقوى الله ومحاسبة النفس واستشعار المسئولية في الآخرة.
فسَّر الشيخ عبد الوهاب النجار قول عمر "مثل العرب كمثل جمل أنف": هذا تشخيص حسن للأمة الإسلامية في عهده فكانت سامعة مطاوعة.(6)
ثانياً: سياسة الدنيا
أقر بحمل أعباء الدولة فيما حضره من أمرها، وأن يولّي على الرعية التي غابت عنه أفضل الأمراء وأكفأهم، ويرى أن مراقبة هؤلاء العمال والولاة فرض لا فكاك منه، فمن أحسن منهم زاده إحسانًا ومن أساء عاقبه ونكَّل به.
قال أن شدته سيخلصها لهم ميزان العدالة، فمن ظلم لن يجد غير الهوان "إنما تكون على أهل الظلم والتعدي"، أمّا من آثر القصد والدين والعفاف فسيجد من الرحمة ما لا مزيد عليه "أضع خدي لأهل العفاف وأهل الكفاف".
تكفل بالدفاع عن الأمة وأنّه لن يحبس الجند في الثغور إلى حد لا يطيقونه، وإن غابوا فسيرعى الخليفة وجهازه الإداري أهلهم وعيالهم.
حض على العمل وضبط الأداء المالي للدولة(7)، وضبط مصادر بين المال.
أمر الرعية بطاعة الخليفة بصفته قائدها والمسئول عنها، وأوضح أن على الحاكم عدم إلقاء رعيته في التهلكة، ولا يهمل شأنها، وأن يضعها على الطريق الأقوم(8).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ الدكتور علي الصلابي - فصل الخطاب في سيرة ابن الخطاب - مكتبة التابعين - القاهرة - الطبعة الأولى 2002م، ص101.
2ـ ابن الجوزي؛ عبد الرحمن بن علي بن محمد القرشي البغدادي - مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - تحقيق: حلمي محمد إسماعيل - دار ابن خلدون 1996م، ص171- 170.
3ـ ابن سعد؛ محمد بن سعد بن منيع الزهري - الطبقات الكبير - مكتبة الخانجي - القاهرة - الطبعة الأولى 2001م، (3/275).
4ـ حمدي شاهين خليل - الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين - مكتبة زهراء الشرق - الطبعة الأولى 2003م، ص120.
5ـ الإدارة العسكرية في عهد الفاروق ص106.
6ـ فصل الخطاب في سيرة ابن الخطاب ص103.
7ـ الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين ص122.
8ـ فصل الخطاب في سيرة ابن الخطاب ص104.
خطب الصحابة.. خطبة عمر بن الخطاب عند تولى الخلافة