ما أراه وما يراه الآخرون

أنا أرسم ما أراه وليس ما يحب الآخرون رؤيته“. يقول الرسام الانطباعي الفرنسي إدوارد مانيه أحد رواد المدرسة الانطباعية في الرسم والتي برزت في أواخر القرن التاسع عشر في فرنسا. قد تبدو مقولة مانيه مغرقة في الذاتية وليس الأمر غريبًا في تلك الحقبة الزمنية التي بدأت تظهر فيها تباشير عصر جديد لم يعد ينظر إلى الفن والرسم على أنه حكر للأكاديميين والطبقة الارستقراطية وليس له بالضرورة أن يكون معبرًا عن الواقع بحذافيره.

إن موقف الإنسان أي إنسان من الحياة هو تعبير عما يجول في دخيلته من انطباعات حول أشياء قد يراها هو والآخرون كل يوم ويتشاركونها، ولكن الأثر الذي ينطبع في الذهن والوجدان يكون فريدًا وخاصًا بنظرة الإنسان نفسه وهو أمر لا يراه ولا يدركه إلا هو. في واحدة من أشهر القصائد في الشعر الأمريكي يصور إدوين أرلنغتون روبنسون شخصية تدعى “ريتشارد كوري”، ولكن من منظور الناس الذين كانوا يرون مظهره الخارجي ونمط حياته، كلما توجه ريتشارد كوري إلى وسط المدينة تبعناه نحن العامة على الرصيف بأنظارنا.

فقد كان سيدًا نبيلًا من رأسه حتى أخمص قدميه، حسن المظهر ورشيقًا، كما الأباطرة، وكان هندامه حسنًا دومًا، ويتكلم كما الإنسان العادي، ولكنه طالما فتن القلوب بمجرد قوله: “صباح الخير”.

وكان يتلألأ في مشيته، وكان غنياً – بل وأغنى من ملك – وكان حسن الخلق ومحط الإعجاب، باختصار كنّا نعتقد أنه امتلك كل شيء، وتمنينا لو أن لنا ما له، وهكذا مضينا نعمل كل يوم وننتظر النور، وعشنا بدون اللحم؛ وأطلقنا اللعنات على الخبز، وذات ليلة هادئة عاد ريتشارد كوري إلى منزله وأطلق رصاصة على رأسه. المتحدث هنا يوحي بأنه من العامة الذين يسيرون على الرصيف إشارة إلى الهوة التي تفصل الفقراء عن الأغنياء، فهو وأمثاله لا يملكون سوى النظر من بعيد إلى أمثال ريتشارد كوري الذي امتلك كل شيء الغنى والجاه والمظهر الباذخ، ولكنه مع كل ما كان ظاهرًا عليه من النعمة أنهى حياته برصاصة.\


في لوحة مانيه المعنونة بـ “الانتحار” يبدو الرجل المطروح على السرير أنيقًا ويمسك بيده المسدس الذي استخدمه للتو للانتحار، يبدو صعبًا معرفة كيف تبدو ملامح الرجل من هذه الزاوية التي رسم بها مانيه اللوحة، ولعله لا يريد أن يشير إلى شخص بعينه (كما في اللوحات الفنية الشهيرة التي تؤرّخ وتجسّد موتَ شخصيات معروفة) بقدر ما يريد أن يجعل من هذا الانتحار رمزًا لكل تلك الأرواح التي تعيش مثقلةً ووحيدة وتموت دون أن تتحرر من أعبائها ودون أن يشعر أحدٌ برحيلها. ولكن المفارقة الأهم في هذه القصيدة هو أننا كقراء لم نكن لنتوقع هذه النهاية لريتشارد كوري بعد كل تلك الأوصاف المثالية التي أطلقها عليه المتحدث، فنحن بهذه الصورة لا نختلف كثيرًا عن سائر الناس الذين وصفهم ممن كانوا ينظرون إلى ريتشارد كوري على أنه امتلك كل ما يمكن أن يجعل الإنسان سعيدًا وراضيًا.

لا شيء يوحي لنا بذلك تمامًا كما حدث مع أهل البلدة التي يعيش فيها ريتشارد كوري. لعله حزين على فراق أحدهم، أو ربما يعاني من الوحدة والاكتئاب أو لعل نظرة المجتمع المقولبة هذه أمست عبئًا ثقيلاً عليه فلم يعد يجد نفسه جديرًا بالحياة. أو لعل ريتشارد كوري لم يكن رشيقًا ولا هادئًا ولا يسير كالأباطرة، بل هذا ما أراد الناس رؤيتَه أو ما أملتْه عليهم الأفكارُ الثابتة التي تجعل الإنسان في صورةٍ نمطية واحدة. إن مبالغةَ المتحدث في وصفه لشخصية ريتشارد كوري ومظهرَه في البداية هي ما جعلت انتحارَه في النهاية صدمةً عميقة، بل وجعلت التفكير فيه أمرًا مستبعدًا تمامًا.

ما الذي قتل ريتشارد كوري في النهاية؟ هل هي نظرةُ الناس وأحكامُهم المسبقة والجاهزة؟ يجعل الشاعر ذروةَ القصيدة في السطر الأخير ويترك المجال مفتوحًا للتساؤلات، طالما أن هنالك الكثيرَ من أمثال ريتشارد كوري يرحلون بصمتٍ في ليلةٍ هادئة لا يشعر بهم أحد.