كروان طه حسين في رواية دعاء الكروان

ومع الوقوف أمام عنوان رواية دعاء الكروان للأديب طه حسين يظهر أنه يحمل لفظين:

اللفظ الأول: هو الدعاء، وبالبحث في قاموس اللغة العربية يتضح أن ما يرادف الدعاء هو ” الابْتِهال، التضرُّع”، أو إنه هو “ما يُقدم من توسلات”. أما عن اللفظ الثاني: الكروان فهو ذلك الطائر المغرِّد طويل الرجلين.

الكروان هو: هو طائر طويل الأرجل، يستخدم منقاره للبحث عن الطعام، وغالبًا ما يتغذى على الحشرات والديدان والقواقع في المراعي الرطبة، ويأكل سرطان البحر والديدان والرخويات، وغالبًا ما يعشش على الأرض بعيدًا عن الماء، يعيش في مناطق القطب الشمالي في أوروبا وآسيا وأستراليا والجزء الجنوبي من أمريكا الشمالية والجنوبية، وله العديد من الأنواع والأشكال، مثل: الكروان ذات اللون الرمادي، المصبع، الألبينو، وكل نوع له خصائص شكلية مميزة، وعلى الرغم من الاختلافات الشكلية، إلا إنه هناك خصائص مشتركة بين أغلب الأنواع

وهي الخصائص التي سيتم استعراض بعضها وربطه بموضوع رواية دعاء الكروان للكاتب طه حسين ضمن مقال اليوم:

رواية دعاء الكروان صورة لواقع المرأة

وبالعودة للربط بين الكلمتين المذكورتين في العنوان يكون التفسير المبدئي لعنوان الرواية “دعاء الكروان” هو ابتهال أو تضرع طائر الكروان، ومع الولوج لأحداث الرواية نجد أن الحدث الرئيسي حول “رد فعل” آمنة تجاه فعل قتل أختها هنادي، مما يثير التساؤلات أكثر حول العنوان وعلاقة طائر الكروان بالأمر.
ولكن مع قراءة نص رواية دعاء الكروان للكاتب طه حسين يتضح أن للكروان وجود قوي في الرواية، بل ودور من الممكن اعتباره شخصية من شخصيات الرواية، وإذا ساع التأويل ذلك سيتم الإثبات في السطور القادمة أن هناك صفات عدة يشترك فيها مع بطلة الرواية الرئيسية “آمنة”، سنحاول التطرق لأكبر قدر منها وإدراك مدى تشابهها مع صفات آمنة بطلة الرواية.
أولًا: الكروان طائر مهاجر يبحث عن ظروف معيشية مناسبة

ويعتبر ذلك العنصر هو أول العناصر الملحوظة تشابهها بين آمنة والكروان، لأن آمنة قامت بفعل الهجرة ثلاثة مرات في الرواية، مرتان عن طريق الغصب ومرة قامت بها بمحض إرادتها.

  • الهجرة الأولى: هجرتها مع أمها وشقيقتها من قريتهن بعد قتل الأب.
  • الهجرة الثانية: هجرتها للمدينة وبيت المأمور، بعد وقوع هنادي في شباك المهندس واعترافها للأم.
  • الهجرة الثالثة: هجرتها بكامل إرادتها من القرية وعودتها للمدينة مرة أخرى بعد وقوع حادثة قتل هنادي.

يظهر فعل الهجرة في المرة الأولى إنه لم يقتصر حد آمنة وحدها فحسب، تشترك فيه معها الأم زهرة والأخت هنادي أيضًا، حيث أن بعد وقوع حدث قتل الأب هاجرن الثلاث مكانهن الأصلي للبحث عن ظروف معيشية جديدة ملائمة، لوضعهن الجديد، لأنهن أصبحن “ثلاث نساء بدون رجل” وسمعة الرجل المقتول غير حسنة.

النظام الأبوي ونساء رواية دعاء الكروان

ويمكن أن تلك الصفة هي بدء الربط بين وجود الكروان وأبطال الرواية، فكلاهما اشتركا في فعل الهجرة، بينما هجرة الكروان تختلف عن هجرة النساء، فالنساء هاجرن لأنهن فقدن وجود النظام الأبوي من جهة، ومن جهة أخرى لأن للنظام الأبوي صور أخرى تمثلت في شخصية “الخال” وجميع رجال القرية، وهم من فرضوا عليهن الهجرة. أي أن الهجرة قامت في أساسها على فقدان ذلك النظام، وتمثلاته في أفراد وشخوص آخرين.

وهذا ما يسمى في النظريات النقدية النسوية باسم “النظام الأبوي أو البطريركية – Patriarchy” والذي يعرفه Manuel Castells – مانويل كاستلز العالم الاجتماعي بأنه: سلطة لرجل المُتحكمة في التنظيم الاجتماعي بين أفراد الأسرة الواحدة. كما يعرف المجتمع الأبوي بأنه: هو المجتمع الذي يعطي زمام الأمر للرجل؛ ظنًا في ارتقائه وتفوقه البدني والاجتماعي عن المرأة.

ويشير النظام الأبوي إلى: تلك العلاقات التي تتبع فيها المراة الرجل، وتعدد صور هذه العلاقات وفقًا لجنس كل منهما واختلافهما البيولوجي، ومن ثم التنظيم لعملية الإنجاب وفقًا للضوابط والشروط التي يضعها المجتمع للأنثى ويقولبها بداخلها.

أي أن سبب هجرة الكروان إذا كانت تكمن في فطرته، بحثًا منه عن الأمان، ففي الرواية قد صدرت من النساء الثلاث ليس بالفطرة بل بما يمليه عليهن المجتمع وفقًا لما يقتضيه من أعراف بات يتداولها حول مكانة المرأة في كنف الرجل واختبائها تحت عباءة سلطته، وعن رفع سلطته عنها وما سيحل بها إذا بقيت من دونه.

حكم المجتمع على نساء دعاء الكروان

وبذلك فإن حكم المجتمع على نساء الرواية كان حكمًا مُسبقًا مبنيًا في أساسه على مهام فرقها المجتمع لكل من الذكر والأنثى دون سبب واضح، وهو ما يطلق عليها النسويات “الأدوار التقليدية للجنسين” حيث تملي المجتمعات على نوعي بني البشر بعض المهام التي يجب أن يتحلى بها كل منهما، وما سيترتب على ذلك إذا خلف أي منهما مهامه التي كُلف بها.

لذا فرقت النسويات بين مصطلح الـ SEX ومصطلح الـ GENDER.. فالـ SEX: هو الذي يشير إلى التكوين البيولوجي للذكر والأنثى، بينما الـ GENDER هو الذي تشير إلى البرمجة الثقافية كالمذكر والمؤنث، وبتعبير آخر لا تولد النساء مؤنثات ولا يولد الرجال مذكرين، بينما مفردات الجنس هذه قد قام المجتمع بتشكيلها، وهو ما تسميه النسويات باسم البرمجة الذكورية، حيث ترى النسويات أن المجتمع الذكوري قد يفرض بعض المهام ويختص بها الرجل ويفرض البعض الآخر ويختص بها النساء، من أجل الحصول على أهداف عدة من قِبل الرجال.

فقد لاحظن النسويات أنه قد جرى استخدام الاعتقاد بأن الرجال يتفوقون على النساء لتبرير الاستحواذ على مراكز القوة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمحافظة عليها، أي الحفاظ على إضعاف النساء.. فالمكانة المتدنية التي احتلتها النساء في المجتمع الذكوري، قد تكونت ثقافيًا وليس بيولوجيًا.

وبما أن النساء في رواية دعاء الكروان للكاتب طه حسين فقدن من يحميهن؛ لذا وجب عليهن الرحيل، حتى وإن كان ذلك الرجل زاني ومُهتك لعرض النساء، لكنه في النهاية رجل تولى مهامًا معينة شرطها عليه المجتمع ومنها إذا بعد عن نسائه أصبحن فريسة وصيدة سهلة؛ باختصار بلا “رجل”.

ثانيًا: طائر الكروان صاحب صوت عالي

بالنظر في أحداث الرواية نجدها جميعها تُسرد على لسان شخصية واحدة فقط ومن وجهة نظرها وهي “آمنة” تلك الفتاة التي اختارها الكاتب من بين شخصيات الرواية لروي الأحداث.

وهذا ما يستدعي سؤالًا هامًا، لماذا عَلا صوت آمنة وتصدر السرد؟ وتكمن الإجابة في البحث حول اختلاف شخصية آمنة عن باقي نساء الرواية.

شخصية زهرة

وظيفتها الجندرية في الأحداث إنها أم وزوجة، ومن ثم تحولت إلى أرملة بعد قتل زوجها، بينما ظلت أمًا وفقًا للدور المُسند إليها، ولكنها فاقدة للزوج، بحثت الأم عن رجل عندما علمت بالمشكلة التي وقعت فيها الابنة هنادي، أي إنها عندما واجهت أزمة لم تقم بحلها بمفردها، بينما تبنت الفكرة السابقة وهي الاكتفاء بالمهام التي أسندها إليها المجتمع وفقًا لوظيفتها الجندرية، وتواصلت مع “الخال- شقيقها”/ الرجل، من أجل التعامل مع مشكلة الابنة. أي إنها لم تتخلى عن ذلك الفكر المُلحق بها ولم تتوارى عنه حتى في سبيل إنقاذ حياة ابنتها.

وظلت زهرة تتبنى ذلك الفكر حتى النهاية، فهي لم تقم بأي فعل أثناء قتل الابنة على يد الخال، ولم تقم بأي فعل تجاه الخال بعد فعل القتل، ولم تقم بأي فعل واضح لإستعادة ابنتها الثانية آمنة.

بل باتت مُستسلمة، لأنه وفقًا لما أملاه عليها المجتمع من مهام، هي لم تكن قادرة على الفعل إلا في سياق دورها كأم، لكن الثواب والعقاب وأخذ القرار والأمر بالبحث أو الكف عنه من مهام الرجل.

ويمكن أن يتبين فكر زهرة ويلخص في جملتها:

“فإن المرأة لا تستطيع أن تعيش ولا أن تأمن ولا أن تستقيم أمورها إلا ليحميها أب أو أخ أو زوج،.. فالمرأة عورة يجب أن تُستر، حُرمة يحب أن تُرعى، وعرض يجب أن تُصان”.

شخصية هنادي

وهي شقيقة آمنة تلك البدوية التي لم تغير منها حياة المدينة شيئًا مثلما وصفتها آمنة أثناء سردها، بمجرد بعض محاولات من قِبل المهندس وقعت كفريسة سهلة تحت يده، أي استسلمت لذكوريته وفقًا لما شعرت به من ضعف فلم تستطيع المقاومة، ولم يأت في الرواية ما يتحدث عن أي مشهد قاومت فيه هنادي عرض المهندس، أي أنه من المؤكد أن هنادي قد استسلمت لعرضه بشكل سريع دون أن يبذل مجهودًا شاقًا معها.

وهذا ما تسبب في وقوع هنادي في حب المهندس، حيث تمكن المهندس من فرض سيطرته على هنادي، تلك الفتاة البريئة الساذجة البدوية الفاقدة للنظام الأبوي التي ضاع منها هيمنة الرجل في حياتها، ثم جاء أمامها من استطاع أن يسيطر عليها حتى اجتذبها إلى هذا الحد وهو “إقامة علاقة جنسية”، أي أنه من بين أسباب وقوع هنادي في شباك المهندس هو ظهور نظام أبوي من جديد أمامها.