كتاب قلق السعي إلى المكانة

عن معنى السعي إلى المكانة وقلقه

يشير المصطلح الذي استخدمه دو بوتون في كتابه، المكانة الاجتماعية (Status)، إلى مكانة المرء في عيون الناس. وعند تطبيق هذا المفهوم في حالة المجتمعات الحديثة الرأسمالية، فإن المكانة تُنسب بصورة كبرى إلى أصحاب الثروات. كلما امتلكت مزيدًا من الثروة، كنت محل إعجاب وتقدير من المجتمع. لهذا السبب يسعى أولياء الأمور إلى دفع أولادهم قدمًا إلى المهن التي يُعتقد أنها تُدر دخلًا مضمونًا عن غيرها.

تفترض لفظة «السعي» المعبِّرة دلاليًا، الموجودة في العنوان العربي المترجم لا الأصل الإنجليزي، حركة واعية حرة من الفرد. وتفترض بالضرورة إمكانية الوصول، فليس معقولًا أن يتحرك المرء ساعيًا لبلوغ هدف ما، دون أن يكون الوصول ممكنًا من الأصل. ولهذا، تثير تلك النتائج فرضية ضمنية، أن مكانة المرء تتحقق عبر المجهود الذاتي ولا شيء آخر. تتغافل تلك الفرضية عن وجود الإنسان داخل سياق اجتماعي معين، ففي حالة الثانوية العامة، لا يكون للاجتهاد معنى دون مقارنة أداء الطالب مع زملائه من الطلبة، كما أن كُليات القمة نفسها لم تكن كذلك سوى لأنها غاية كل الطلبة ولا تأخذ منهم سوى القليل.

ولهذا، لا يمكن فهم رغبات الإنسان بمعزل عن سياقه الاجتماعي. هذا على الأقل ما فهمناه من المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان. تعبِّر رغبة الإنسان بموضوع ما، أي موضوع، بشكل عام عن رغبة في الشعور بالاهتمام. أو أنها تتعلق برغبة الآخر، أي أننا نرغب فيما نظن أن الآخر يرغب به، أو نرغب في ما نظن أن الآخر يفتقر إليه، كي ننال منه الاهتمام والاعتراف بوجودنا. يرغب الطالب في الالتحاق بكلية القمة، لأن تلك الكلية محط أنظار الجميع، ولن نتعجب عندما نجد جل طلبة كليات القمة في حالة من الإحباط بعد دخولهم الكلية. فكما يقول آلان دو بوتون، لم يُدخل هؤلاء الطلبة عنصر العقل الذي أدخلته الفلسفة في الحسبان، فلم يمرروا تلك الرغبات على العقل لمعرفة مدى ملاءمتها لهم.



تعليلات دو بوتونالشعور بالحب

ما غاية كل كدح وسعي في هذا العالم؟ ما هدف طلب الثروة والسلطة؟ أهو توفير ضرورات الطبيعة؟ إن أجر أهون عامل يمكنه الإيفاء بهذا الغرض».

-آدم سميث، نظرية المشاعر الأخلاقية 1759.

لدينا تراث طويل في النظرية الاجتماعية يتناول الإنسان بوصفه كائنًا اجتماعيًا، لقد اختفى تقريبًا الحديث عن الإنسان بوصفه «حيوانًا عاقلًا» كمسلمة وضعها أرسطو وسطَّر بها فلسفة ألف عام، بل صار الإنسان «حيوانًا اجتماعيًا»؛ أي تتشكَّل سلوكياته تبعًا للتفاعلات الاجتماعية. تطرح التفاعلية الرمزية أن سلوكيات الإنسان تتشكُّل عبر الرموز الاجتماعية في محيطه الاجتماعي. وبربط هذا الطرح مع بوتون، تكون السيارة الفارهة التي يشتريها أحد الأثرياء ليست إلا رمزًا اجتماعيًا. فثمة قيمة استخدامية للمنتج الذي يشتريه المرء وقيمة أخرى رمزية. من يرغب بسيارة لقضاء مواصلاته، ربما سيختار السيارة الأكفأ. وفي ذلك يكمل سميث قائلًا:

أن نكون تحت أنظار الآخرين، وموضع عنايتهم، أن نلاحظ الرضا والاستحسان في عيونهم. يعتز الرجل الثري بثرواته لأنها تلفت انتباه العالم حوله، ويخجل الفقير من فقره لأنه يضعه بعيدًا عن أنظار الناس.

وبالتالي، فإن السعي المستمر إلى المكانة، إنما يسعى إلى غاية أخرى خفية، أن ينال اهتمام الناس وتطلُّعهم إليه. يفرِّق بوتون بين نوعين من الحب؛ أولهما الحب الجنسي الذي يسعى إلى شريك، وهذا لا غبار عليه من المجتمع. أما الثاني والذي يرى بوتون أن الأفراد يخجلون من الحديث عنه، نيل اهتمام الآخرين.

ليس ثمة عقاب أشد شيطانية من أن ينطلق المرء ساعيًا في المجتمع دون ملاحظة بالمرة. إن لم يلتفت أحد عندما ندخل مكانًا، وإن لم يحبنا أحد عندما نتكلم، أو لم يعبأ بما فعلنا، ولكن إذا ما تجاهلنا كل شخص [كأننا موتى]، وتصرَّف كما لو أننا كائنات لا وجود لها، فسرعان ما يتصاعد داخلنا نوعٌ من الحنق واليأس العاجز، مقارنة به، قد يكون أقسى تعذيب بدني مصدرًا للراحة.

-ويليام جيمس، مبادئ السيكولوجيا 1890.

المتغطرسون

يستدعي بوتون في كتابه مصطلحًا قديمًا ليعطيه معنى جديدًا، مصطلح الغطرسة (Snobbery). في الفيديو الذي نشره بوتون على قناته على يوتيوب School of life عن قلق السعي إلى المكانة، يبدأ بوتون بالحديث عن هؤلاء المتغطرسين، قائلًا أن السؤال الأول الذي يُطرح علينا عندما نقابل غريبًا للمرة الأولى: ماذا تعمل؟ وبناءً على الإجابة سيقرر الغريب إذا كان كلامنا يستحق الاهتمام، فلن يتقبلنا كما نحن سوى الأم.


الاستحقاقية

قديمًا، في المجتمعات قبل الحداثية، كانت المكانة الاجتماعية شيئًا ثابتًا لا يتغير مع الزمن. إذا ولد الفرد في طبقة النبلاء أو طبقة الفلاحين، سيظل كذلك حتى نهاية حياته، فلا سبيل للترقي الاجتماعي من طبقة اجتماعية إلى طبقة أخرى، والوضع السائد في الحياة الاجتماعية سيظل على ما هو عليه. وبناءً على ذلك، لم يُنظر لأفراد الطبقات الاجتماعية المختلفة نظرة احتقار أو إجلال، فليس ذنب الفلاح أنه ولد فلاحًا، وليست فضيلة النبيل أنه من الطبقة الأرستقراطية.

أما في عصر الحداثة والرأسمالية، تعد المجتمعات أبناءها بإمكانية الترقي الاجتماعي بالعمل الشاق واكتساب المهارات، سيستطيعون تحقيق الثروة، وبالثروة يمكنهم تحقيق كل شيء آخر. فنشأت عقيدة جديدة في هذا الإطار، يُطلق عليها الاستحقاقية (Meritocracy). والاستحقاقية تعني أن من حققوا النجاح اعتمدوا على أنفسهم وبذلوا كل نفيس لكي يصلوا إلى ما هم عليه، وبالتالي يستحقون نجاحهم.

ولكن تلك العقيدة إذا نظرنا لها من هذا الجانب، لا يمكن إغفال وجهها المقابل، أن غير الناجحين -وهم كُثر- في تحقيق الأهداف التي حملهم المجتمع بها، فهم فاشلون بسبب تراخيهم وضعفهم، أو Losers كما يُطلق عليهم في الثقافة الأمريكية. يتطور هذا المنظور داخل أعماق النفوس، فيحيل نظرة المرء إلى نفسه إلى كُره ذاته، بالإضافة لكُره الآخرين المؤذي لنفسه. فلن يرى فشله كسوء حظ أو ظروف غير ملائمة، بل سيتحمل وحده هذا الفشل بكل قسوة، كأنه يستحقه. ولسنا بحاجة إلى الحديث عن المنحدر الذي يقع فيه المرء بعد تلك النظرة المحتقرة للذات، فمنه إلى اضطراب القلق السريري والاكتئاب السريري، ومنهما إلى مزيد من عدم القدرة على الحياة السوية، ومزيد من «الفشل» الذي يراه فيه المجتمع.

رؤى بديلة جان جاك روسو وأصل التفاوت بين الناس

توفِّر اللغة العربية لنا معجمًا معبِّرًا، وفي سياق النقاش الحالي، يمكننا أن نتأمل في الفرق بين لفظي الثراء والغنى. يعبِّر الثراء في اللغة عن كثرة المال، بينما يعبِّر الغنى عن عدم احتياج المرء إلى سواه، أو القدرة على الاستغناء عن كثير من الأمور والاكتفاء بالقليل منها. تتعلق فرضية جان جاك روسو في كتابه «أصل التفاوت بين الناس» برؤية مشابهة لرؤية تراث العربية المُتمثِّل في لغتها ومعاجمها.

يشير بوتون في كتابه إلى آراء روسو، إذ يرى أن الثراء يتحقق بطريقين، إما عبر زيادة الثروة أو بتقليل الرغبات. وقد نجحت الحضارة الغربية في تعظيم ثروات المجتمعات الغربية، ولكنه ألقى عليها لعنة اشتعال الرغبات وتلاحقها دون انتهائها، وبالتالي فهم أثرياء، ولكنهم ليسوا أغنياء بالمعنى العربي المذكور. تذوَّق أفراد المجتمع الغربي الثراء ولكنهم عانوا من الحرمان، على حد تعبير روسو، أشد مما عاناه الرجل البدائي، بسبب رغباتهم اللامتناهية.

إن مقارنة روسو لمستويات السعادة النسبية لدى الإنسان البدائي والإنسان الحديث، تعيدنا إلى تأكيد ويليام جيمس على دور التطلُّعات في تحديد حصتنا من تقدير الذات. قد نكون سعداء كفاية بالقليل إذا كان هذا القليل ما نتوقع، وقد نكون تعساء بالكثير عندما نتعلم الرغبة في كل شيء.