ثلاث حكايات وملاحظة تأملية: عندما نَسبح في بحر الرمزية بحثًا عن شاطئ المغزى

هوس البحث عن العمق، وحياة تنتهي بالانتحار

بدأ زوسكيند بأقل حكاياته غموضًا، والتي نعيشها بشكلٍ أو بآخر. حيثُ فتاة شابة تهوى الفن والرسم، وتسير حياتها على نحوٍ هادئ. حتى تُقيم الفتاة أول معرض فني لها، وفي وسط فرحتها وتَلقي الإعجاب من جمهورها على لوحاتها، تتعرض لنقدٍ لاذعٍ من أحد النُقاد الفنيين، بأنّها موهوبة ولوحاتها جيدة ولكنها تفتقد عنصر العمق. رُبما لم تفهم تلميحه هذا، ولم تُلقِ بالًا حينها. ولكن الأمر تكرر حين ذكر هذا الناقد نفس هذا النقد بإحدى الجرائد.

ومن هنا تركت الفتاة كلَّ شيءٍ، ومضت تقضي حياتها تائهةً ساعيةً عن معنى العمق الذي أشار إليه الناقد. انقلبت حياتها رأسًا على عقبٍ، وأهملت فنها ولوحاتها، وانعزلت عن أصدقائها والمجتمع. وتقوقعت على نفسها، وأمعنت التفكير حتى تركزت برأسها فكرةً واحدةً حاصرتها وابتلعتها وهي: “لماذا ليس لديّ عمق!“.

لم تَعدْ الفتاة تُبالي بأي شيءٍ سوى تلك الملاحظة الناقدة المُبهمة، التي وجهها إليها هذا الناقد العابث غير مُبالٍ بأثرِ نقده في نَفْسِ تلك الفتاة. مزقت الفتاة كلَّ لوحاتها، وأخذت حالتها النفسية تتدهور شيئًا فشيئًا إزاء عدم وصولها للمعنى المفقود. وبعد مُعاناة نفسية قاسية، قرّرت الفتاة التخلّص من حياتها، لتُنهيها بالانتحار قفزًا من مبنى مرتفعٍ.

القصة تبدو قاسيةً، ولكنها في نفس الوقت لاذعة السخرية. أراد بها زوسكيند الاستهزاء من مُدعي الثقافة والنُقاد المتحذلقين. وتتبلور رمزية الفكرة هنا حول النقد وكيفية تقبُلنا له، وتأثيره على ثقتنا بأنفسنا. وأنّ أغلب آراء النُقاد جامدة ومُجحفة ومُتقلِبة، ورغم أهميتها فلا بدّ أنْ يَكمن الرضا عن أعمالنا من داخلنا. كما أنّ الناقد لا يحتاج كلَّ هذا العمق ليُوصل فكرة النقد، ولكنه يحتاج أنْ يتميز بالمرونة والسلاسة.


ما بين الثقة والغرور، وفجوات الصراع الأبديّ

تدور الحكاية الثانية لزوسكيند حول بطلين، أحدهما عجوزًا والآخر شابًا. حيث العجوز المشهور بتمرسه وقوته في لعبة الشطرنج، وكذلك برودة ودِقة لعبه. وكالعادة يلتف حوله الناس في كلّ منافساته، والتي يفوز بها باستحقاق دومًا وبكلّ ثقةٍ. ونظرًا لمهاراته وتمرسه باللعب وقدراته الشطرنجية العالية، لم يستطع أحد انتزاع الفوز منه خلال تسع سنواتٍ ماضية. إلى أنْ يأتي شابٌ غريبٌ عن المدينة مجهول الهوية، يتحداه بكلّ ثقةٍ. ورغم صِغر سنه وقلة خبرته بالنسبة لذاك العجوز المخضرم، إلا أنّ رغبة هذا الشاب في التحدي وجذبه لأنظار الجميع، تسببت في فقد العجوز هدوئه وزعزعة ثقته.

وبعد عِدة حركات بسيطة يُحرك فيها الشاب قطع الشطرنج بكلّ دقة ورشاقة، تنتهي تلك الملحمة الشطرنجية بفوز الشاب وتفوقه على هذا العجوز. تاركًا الجميع في ذهولٍ تامٍ لخسارة بطلهم، وتاركًا البطل الحقيقي -الذي قضى سنوات حياته في تلك اللعبة- مُحطمًا كالزجاج المهشم.

ذهب الشاب من حيث أتى، دون أنْ يُحيّي جمهوره أو حتى خصمه. وظلّ بطلنا العجوز تُراوده وساوسه، وتُصارعه أفكاره وهواجسه، يُقاوم رعشة يديه. ويبقى السؤال الذي دار بذهن الحاضرين: كيف لتلك الأسطورة أنْ تنكسر؟ يُقرر العجوز بعد ذلك التخلي عن لعب الشطرنج واعتزاله نهائيًا، بعد فَقد ثقته وتحطم كبريائه.

القصة تتكرر يوميًا، وتَكمُن رمزية زوسكيند هنا في إبراز الشعرة التي تفصل بين الثقة والغرور. وكيف يتمكن الخوف والإحباط من صاحبه رغم مهارته وتاريخه المُشرف؟ وكيف يُحول التّزعز والوهم اللاشيء -اللاشيء حرفيًا- إلى شيءٍ مُهولٍ؟


عندما يقتل الذعر الإنسان، ويُصبح الكابوس واقعًا

وهنا عزيزي القارئ نأتي لأطول حكايات زوسكيند، والحكاية الثالثة بعنوان “وصية المعلم موسارد“؛ ليُغرقنا زوسكيند في بحرٍ من الغموض والغَرابة والرمزية. حيثُ بطل الحكاية هنا هو إحدى شخصيات الكاتب والفيلسوف جان جاك روسو في كتابه الاعترافات، ويحمل اسم المعلم موسارد.

تتمثل شخصية موسارد هنا في عدم اتزانها؛ حيثُ يحمل موسارد أفكارًا مجنونة، وينهمك في البحث عن اكتشافات حمقاء غير واقعية. تدور تلك الاكتشافات حول اقتراب نهاية العالم بسبب تحجر الأرض، وتَحولها إلى صدفة ضخمة وكتلة حجرية واحدة. ويُكرس موسارد أيامه ولياليه بحثًا حول تلك الفكرة، حتى يَغرق في أفكاره وهواجسه، ويُصيبه الذعر والخوف. يتطرق زوسكيند لوصف الكثير من التفاصيل، ليصل بنا إلى مصير موسارد المحتوم. حيثُ يتخشب جسده بعد وفاته وهو جالس على مقعده، ويُصبح كتلة واحدة في وضع الجلوس. ويعجز الناس عن دفنه في تلك الوضعية، ويتم حفرُ قبرًا خاصًا يتناسب مع وضعية جسده المُتصلب.

تميل رمزية زوسكيند هنا إلى مزج الحقيقة بالخيال، وكيف أنّ الأفكار المجنونة من الممكن أنْ تُودي بحياة أصحابها. وهل نحن أقوياء كفاية لتقبُل أهوال الحقيقة؟ وكيف أنّنا في كلّ مرةٍ سنُبصر فيها سنرى عالَمًا جديدًا، ولن يعود بمقدُورنا رؤية القديم؟


الكريزة فوق التورتة، والملاحظة التأملية

يختم زوسكيند مجموعته القصصية بأعظم شيء على الإطلاق، والملاحظة التأملية الساخرة بعنوان “فُقدان الذاكرة الأدبية“. ولن تكون مُبالغة حين أصفُها بفاكهة الكتاب، أو كما أُسميها “الكريزة اللي فوق التورتة“.

الجزء الأكثر جدلًا يا رفاق حينما يقف القارئ أمام نفسه بعد قراءة أي كتاب، وصدمته عندما يبحث عن المُتبقي في ذاكرته مما قرأ. يعرض لنا زوسكيند هنا -رُبما- تجربته الشخصية مع النسيان أثناء أو بعد القراءة. فكثيرٌ منّا عندما يشرع في قراءة كتابٍ ويتركه، ثم يعود ليُكمله يجد أنّ ذاكرته أسقطت جزءًا كبيرًا منه. وحتى لو أنهينا الكتاب وأرادنا العودة إليه سنجد نفس المشكلة. هذا ليس مرضًا، ولكنها آفة النسيانِ التي تُلازمنا جميعًا. ومن المُؤكد أنّ كلّ كتابٍ نقرأه يطبع من روحه على شخصياتنا، فلا نخرج منه مثلما بدأناه.

يقول الكاتب غريغوار دولاكور:

في الكُتبِ فقط، يُمكن للمرءِ أنْ يُغيّر حياتَه. يُمكنه أنْ يمحُو كُلَّ شيءٍ بكلمةٍ. أنْ يُخفي وزنَ الأشياءِ، وأنْ يمسحَ الدناءاتِ. وبعد جملةٍ، أنْ يُلقي نفسه فجأةً في أقصى العالَمِ.