قلق السعي إلى المكانة

إن الفكرة الأكثر رواجًا منذ فترة في وسائل التواصل الإجتماعي، عن العمل المستقل وسوى ذلك عبودية، وكأنّ للجميع المقدرة على الإنطلاق بعمله الخاص، أو كأن العالم سيقوم لو أنّ كل شخص يأبى العمل في مؤسسة ويريد فتح عمله الخاص! الفكرة مستهلكة بدأت في عام 1907 بكتاب “Three Acres and Liberty” للناشط والكاتب الأمريكي Bolton Hall ولاقت الفكرة قبولًا واسعًا آنذاك، تتحدث عن أن الشخص يمكنه استعادة حريته بشراء قطعة أرض بمساحة ثلاثة أفدنة من الأراضي الرخيصة والصالحة للزراعة يمكن خلالها زرع محصول غذائي يكفي أربعة أشخاص و بناء منزل بسيط للتخلص من حماقة العمل لأجل الغير! الكتاب يفصّل الكثير حول هذا الموضوع، ورغم أنها مغرية إلا أنه الكثير من الفلاسفة يختلف معها ويراها مجرد رؤية مثالية للمعيشة..

القراءة في هذا الكتاب، وعمومًا القراءة والاطلّاع دائمًا يريك أن لجميع المجتمعات جوانب تسيء لجانبها الحضاري، وإن كانت تختلف من مجتمع لآخر مدى سوءها، بالإضافة لأن هناك مجتمعات مازالت تعاني بشدة من الكثير، هناك بالمقابل مجتمعات تخلصت من الكثير من العوائق هذه،  أبسط و أكثر مثال هو معاملة المرأة.

نرى بأن البعض يحب جلد ذاته ومجتمعه كثيرًا والتفضل في مدح أي مجتمع آخر سواه بشكل كلي، وهذا مؤسف فعلًا فليس هناك مجتمع مثالي متكامل وهي مجرد فكرة خيالية نتمناها، لذلك نفضل أن نرى الأخبار حول الأمور الجيدة هنا أكثر، ولا يعني أننا نتغاضى عن السيء أو ننفيه، فمازلنا نرى ونسمع عن الكثير مما يؤسفنا أن يكون في مجتمعنا فعلًا، ولكن الأفضل العمل فعليًا والقيام بالتغيير أكثر من مجرد الشوشرة والتهكم والسخرية حولنا، لأننا نظن أن التقدم لن يأتي متى ماتوقفنا عن محاولة الحراك بشكل فعّال واستمرينا بالحديث بكل سوء فحسب.

رغم ذلك نرى أنه أحد الحلول لبعض المجتمعات التي تأبى كل تغيير، وتحاول العيش في انغلاق فكري تام، تمنع حتى الأجيال الجديدة من محاولة العيش الطبيعي والتأقلم مع ما تتطلبه الحياة بشكل عادي جدًا حتى، هو الخروج عنها! فبعض القمع ليس له أي حل، وكشخص لديه عائلة يسعى فعلًا لأن يوفر لها سبل الحياة بينما يقاوم مجتمعه أبسط الأمور كالتعليم مثلًا، لماذا عليه أن يتحمل الأمر؟ نعرف أنه في كثير من المجتمعات هذه يتم مقاطعة الشخص بشكل كلي، لكننا نرى أن في أبسط أمور الحياة ما يستحق أن تترك من لا يتفهم ذلك.

بالنسبة للمجتمعات أيضًا، من الأساسيات مثلًا كطريقة التعامل تبعًا للمكانة، والعوامل التي تحدد هذه المكانة تختلف من مكان لآخر، من زمان لآخر ومن مجتمع لآخر، كالشرف والمال والمنصب والسلطة والدين والشهرة….. وأمور أخرى قد يذهلك السماع بأنها مهمة إلى هذا الحد!

من الأمور السيئة أيضًا أن تحدد قيمتك بناءً على مايراه الآخرون فيك، نعرف أن الكثير يقع في هذا الأمر، ومن ثم يحاول التخلص منه، لكن الكثير فعلًا يؤمن بهذا ويعيش كل حياته تبعًا لذلك.

 “هل سيصبح الشيء أفضل إذا ما مدحناه؟” ” وهل سيصير أسوأ إذا مالم يتم مدحه؟”

من الممكن جدًا أن تسعد ببعض الثناء، من الممكن أيضًا أن تتأثر ببعض النقد، أو القدح حتى، لكننا نرى أنه سيكون هناك فرق في مدى ذلك متى ما آمنت تمامًا بأن قيمتك غير مستمدة من الآخر، لا تحبط نفسك لأن شخص قارنك بشخص آخر يرى بأنه أفضل منك بكثير، ظروفكم في منتهى الأمر تختلف، وطريقة تعلمك، ومسارك وتجاربك الخاصة أيضًا، ولا ترمي بنفسك فرحًا إذا ما أمطر عليك أحدهم مديحًا فتتوقف، وترى بأنك وصلت، رغم أنك تعلم في قرارة نفسك بأن مازال أمامك الكثير، استفد إن كنت تستطيع مما قد يصلك، لكن المهم أن تعرف كليًا أن قيمتك هي ماتعرفه عنك، رغم أنه في بعض الأحيان قد تنسى أنك شخص جيد جدًا فيذكرك أحدهم بحديث، أو قد ترى أنك مذهل كفاية فيفاجئك تقييم سيء في عملك وتعود للتركيز.

أيضًا من استمداد القيمة الشخصية مما قد تراه في الآخر عنك، من احترام أو اهتمام أو….، هناك الفشل، ولا بأس بالفشل كثيرًا أليس كذلك؟ لو أننا فقط لا نفكر في نظرة الآخرين وتفسيرهم لهذا الفشل.

رغم أنه في بعض المرات لن يعد  “فشل”، ولكن شخص ما تأخر في قرار زواجه سواءً بإرادته أم لا، شخص قرر ألا ينجب مبكرًا، شخص… ستجد الكثير من الحديث حوله هنا وهناك، الكثير من الأنوف التي تحاول التدخل في هكذا مواضيع، وأنا وأنت عزيزي القارئ نرى الكثير من ذلك للأسف أليس كذلك؟

كيف ننظر للآخر؟ في ظل وجود الكثير الكثير من الحوادث في كل مكان وبالطبع نقصد السيء منها، نشاهد ردود فعل عنيفة، وردود فعل غريبة، وردود فعل غير متوقعة، فكيف تكون نظرتها حولها؟ ومدى تعاطفنا مع الآخر.

في كتاب لأرسطو “فن الشعر” وبأحد أفكاره عن الموضوع قال بشكل أو بآخر إنه مقدار تعاطفنا مع الآخر و إخفاقه يتناسب بشكل مباشر مع سهولة أو صعوبة تخيلنا لأنفسنا إننا نسوي تصرف مماثل في ظل ظروف مشابهة، مذهل صحيح؟

بعد محاولات عديدة أصبحنا نستطيع تفهم الكثير مما يحدث، بعيدًا عن التعاطف ..

تساؤل:

كيف يمكن لأصغر خطوة نقودها في الاتجاه الخطأ، أن تقودنا إلى أوخم العواقب…

خلاصة الحديث أن امتلاك الكثير وإنجاز الكثير والانغماس في ذلك، لن يغني أو ينسينا مثلًا شجار مع شخص نحبه، وهو ما يسعى الكثير للتغنّي به، وكأنما الماديات تغني عن البشر والعلاقات الإنسانية.

السعي بدون توقف وعدم القدرة على الإتزان في الحياة يوقعك في الكثير في كتاب “علم الأخلاق إلى نيقوماخوس” لأرسطو تحدث عن بعض الأمثلة التي يندفع فيها الإنسان إلى الحدود القصوى مثل السخاء إلى الإسراف، أو الشجاعة إلى الطيش! والكثير مما نشهده اليوم من صفات من المفترض أن تكون محمودة عوضًا عن ذلك ينقلب الوضع، يقول آلان يمكننا الإضافة إلى ذلك من طموح إلى هوس المكانة، والذي يدفع بالإنسان إلى السعي بشكل مقلق كما يصف الروائي الروسي تولستوي في شخصيته “إيفان إيليتش”والذي يعمل قاضي، فقد حبه لزوجته وعلاقته بالنسبة لأبناءه غير مفهومة، الأصدقاء حوله هو من يمكن أن يساهم في مسيرته فقط وآخرين من ذوي المناصب العالية، وصل لمراتب عليا وله من المكانة ماقد يتمناه أي شخص، حتى يفاجئه الموت في عز كل هذا، ليشعر بالأسى على نفسه وكيف شعر بأن مكانته تتعلق فقط فيما يحبه المحيطون به، لا لأجل ذاته الحقيقة، وعند موته يوقظ هذا الحدث صديقه بيوتر ايفانوفيتش ليحاول تدارك حياته قبل أن يحصل له المثل.

هل نحتاج لتأمل الموت دائمًا لنستطيع فعلًا أن نوازن حياتنا؟

للعمل بشكل كافي ولقضاء الوقت مع من نحب وللتوقف قليلًا عن محاولة الإهتمام بكل ماهو ظاهر وسيمنحنا تقيمًا عاليًا من الآخرين!

قلق السعي إلى المكانة، كتب pdf ، آلان دو بوتون