لائحة رغباتي: عن العيش والسعادة
ننسى كثيرًا معايير العيش والأغراض الأصلية منه. قبل أيام شهدت نقاشًا -أو شيئًا أشبه بذلك- بدا من خلاله أن الناس لطول ما عملوا يحسبون العمل نفسه غاية، بل عبادة، والوظيفة ضرورة سواء لمن احتاج إليها ومن لم يحتج. رأيت هذا، كغيره من تصورات الناس، خروجًا عن الفطرة التي يفترض أن يدرك المرء من خلالها، بمجرد الحس، ما هو مهم، ما يستحق العيش من أجله.
“إنني سعيدة مع جو. إنها ليست الحياة التي كانت تحلم بها كلماتي في المذكرات حين كانت أمي حية. حياتي ليست النعمة الكاملة التي كانت تتمناها لي كل مساء، عندما كانت تأتي لتجلس بجانبي على السرير؛ عندما كانت تداعب برفق شعري وهي تهمس: أنت موهوبة يا جو، أنت ذكية، ستعيشين حياة جميلة. حتى الأمهات يكذبن. لأنهن هن أيضا، يخَفن”.
لكن هذا كله، هذا الاستمرار فاقد الدافع والدافن للفكر والمراجعة، لا يعدو أن يكون صادرًا عن شقاء الإنسان، وحاجته العجيبة إلى إنكار مشاكل الحياة بتكييف نفسه عليها. لأن الاعتقاد -في المثال- بأن العمل عبادة لذاته خير من التسليم بأن الإنسان العادي، سواء في بلد متخلف أو متقدم، يقضي الشطر الأكبر من حياته مستعبدًا بالعمل الحر أو المقيد بالوظيفة، لغرض واحد يزيد الشعور باحتقار الذات والحافزَ إلى إخفاء العملية كلها: هو الحفاظ على المطعم والمسكن.
ما أقوله هو أن نوع الكتابة المحفزة (ومنها رواية “لائحة رغباتي”) التي غرضها دفعك نحو الحياة وتذكيرك بحلاوتها، هو نوع فيه من العيوب الكثير، لكن الاطلاع عليه بين حين وآخر ضروري لإخراجنا من سياق العائشين في غير فكر، المُصرين على التقدم للأمام مع تجاهل كل اعتبار لا يصب في المصلحة الكبرى: الاستمرار الذي يعزز الشعور بالصوابية.
الأحلام القديمة
بالنظر إلى اتساع العالم، وكثرة الإمكانات المتاحة والاحتمالات المطروحة، وتضاعيف الخيالات التي تنمقها وتؤطرها وتغذيها الكتب والأفلام والموسيقى.. في هذا العالم الكبير يتحول الاكتفاء من مستطاع إلى تحدٍّ. أن ترضى بما عندك هو تبسيط للأمر، والصورة الأعقد هي أن تستقر على تصور يراعي حقيقة أن الرضا بما عندك معناه التخلي عن الممكنات الواقعات وراءه، والسعي لهذه الممكنات مخاطرة بما بين يديك.
العصفور الذي في يدك أم العشرة التي على الشجرة؟ تبدو الإجابة واضحة طبقًا للمفاهيم التي يجرعها الإنسان طفلًا بمنتهى التبسيط والحجر على حرية الاختيار والتخيل، لكنه عند بلوغ السابعة والأربعين -كحال بطلة “لائحة رغباتي”- يعيد النظر في الميزان، ويفتح نفسه للموازنة الثقيلة التي كثيرًا ما تخرجه عن القواعد المكتوبة سلفًا وتدخله التجربة الموصومة بأزمة منتصف العمر.
معظم الناس يحلمون في الحقيقة من غير إخلاص، مجرد استعمال لخيار الخروج الشكلي عن الحياة اليومية والذي يساعد على مواصلتها، من غير نية حقيقية للتغيير، كما نرى البطلة التي عادت إلى بيتها بعدما كانت أقرب ما يكون المرء للفرار. لست مؤيدًا لحمى التغيير، والدعوة العامة لهجر الحيوات المستقرة والمُرضية من أجل ما يخلع الناس عليه ألفاظًا رنانة كالشغف والتجربة؛ إذ الحقيقة أن العالم رغم الاتساع ضيق، والخيارات على تعددها محدودة، وتغيير المكان والظرف لا ينفع إلا من نفسُه مؤهلة للتغيير، وما يفتقر إليه عامة الناس شيءٌ أكبر من المال الميسِّر لاختيار الحياة المرغوبة، أعني الارتياح داخل الجسد، وحب النفس وقبولها، فهمها والسعي إلى علاج آفاتها.
لكن لأن هذا نظري، والإنسان قليلًا ما يبذل في الإصلاح ما يبذله من جهد في التمني، فإن قضية الحياة تتحول من تطوير الذات إلى تطوير المحيط، والذي يتسع في حالات كثيرة إلى إصلاح العالم. المهم هو انشغال عام عما يدور في الرأس والقلب، ومهرب من جلسات جادة مع النفس بغرض التعرف عليها والتعامل مع مشاكلها.
هل يتعارض هذا مع إمكانية انحصار التعاسة في سبب معين سواء كان المال أو غيره؟ لا. النتائج كثيرًا ما تعكس الضوء على المقدمات وتلزمنا بإعادة النظر، وفي الرواية هنا فإن المعضلة التي أحسست بها من الصفحات الأولى، والتي أفكر فيها بشكل شخصي من حين لآخر، هي التنازع بين الرضا والمزيد الذي يتسرع الناس في تسميته طمعًا: بين الحياة الواقعة المعقولة وبين الأحلام القديمة التي، وإن علمتَ أنها تكونت في غير نضج، لم تزل راغبًا بها.
ثمانية عشر مليونًا
ثمانية عشر مليونًا لن تعيد ذاكرة أبيك لسابق عهدها ولن ترجع أمك من القبر، لكنها يمكن أن تفعل الكثير. مخيفٌ كم الأشياء التي يمكن أن يفسدها المال، لكن ما يخيف أكثر من ذلك هو كم الأشياء التي يصلحها. تحقق الحلم، أن تخرج أوهامك المستعبدة عن السيطرة، أن تنقلب الآية فتُخضعك هي.
“لكن انتبهي… لأنك عندما تملكين المال، يحبك الناس فجأة. يحبك أشخاص مجهولون فجأة. سيطلبون منك الزواج. وسيرسلون لك قصائد. رسائل حب. ورسائل كراهية. سيطلبون منك المال لعلاج فتاة مصابة باللوكيميا تدعى مثلك جوسلين. سيرسلون لك صور كلب معذب ويسألونك أن تكوني إشبينته ومنقذته؛ وسيأملون منك منزلًا له باسمك، وكببًا محشوة وفطيرة ومعونة كلبية. أم مصابة بتقلص عضلي سترسل لك فيديو مؤثرًا ستشاهدين فيه سقطتها الصغيرة على الدرج، وارتطام رأسها بالجدار، وستطلب منك نقودًا لتركيب مصعد في المنزل”.
لنقل إن معظم الأحلام لم توجد لتقع، مناخ أرضنا لا يناسبها، هنا لن ترتع بل ستتوحش، وبدل الارتواء ستزيدك عطشًا، لأنك قد تكون مؤهلًا للخيال لكن ليس لعالم مفتوح على مصراعيه، قد تستمتع بتوافد الخيرات داخل الرأس لا خارجها.
المشكلة هنا ليست فيما إذا كان المال قادرًا على تحقيق السعادة، هو كذلك ورغِم أنفُ من زعم العكس ليزهِّد الناس فيما ليس بأيديهم. المشكلة في الغنى المفاجئ، في الانتقال ألف درجة للأعلى على سلم الوضع المالي، في ترويض النفس المتطلعة إلى تخمة مدمرة، في تعطيل التغير الحتمي لوضع تعرف الآن أنه محتمل، في تأخير لحظة التعامل الضرورية مع تبدل نظر الناس لك وتبدل نظرتك للأشياء، مع العالم الجديد كليًّا والذي سيصحبك فيه -وسط التغييرات- ما هو مؤكد: أنك تملك من المال أكثر مما تحتمل خيالاتك فضلًا عن واقعك، أن ذاتك المألوفة على شفا التغير.
إنفاق المال شيء والتصرف بحفنة ملايين مدهشة وداعية للإنفاق على أي نحو شيءٌ آخر. لهذا تقوم بطلة رواية “لائحة رغباتي” بكتابة قائمة حاجيات تافهات في المعظم: ستارة حمام وشاشة تلفاز مسطحة وما شابه، في محاولة للسيطرة على هذا الاندفاع للرغبة؛ هذا الاضطرام وراء سدٍّ مُرتجٍّ سينفتح قريبًا وسيغرق ما كان يحبسه كلَّ شيء. والأهم: الحفاظ على الأحلام التي يمكن أن تزول إمكانيتها بتحققها. يقول “غريغوار دولاكور” على لسان بطلة “لائحة رغباتي”:
“أن يكون المرء غنيًا يعني أن يرى كل ما هو قبيح ما دامت لديه الغطرسة ليفكر أن بمقدوره تغيير الأمور. وأنه يكفيه أن يدفع ليقوم بذلك”.
تنتصر الراضية ويهلك الجشع
الشخصيات غير السوية أكثر إثارة للاهتمام ومناسَبة للأدب، والنهايات الواقعية الجارحة أقل تحديًّا للكتاب ونسبة خروجها مقبولة أكبر. مع ذلك فإن المقدمة الجيدة يمكن أن تحتمل كل النتائج، والرواية التي تتسلل لقلب القارئ -كما تسللت لي رواية “لائحة رغباتي- قابلة للتبرير بأقل جهد. بعد كل شيء، وحتى إذا كنا نعلم أن الدنيا في الغالب تكافئ الأشرار بدل الأخيار، فنحن على علم بأن صورة النهاية حيث تنتصر الراضية الطيبة ويهلك الجشع ممكنة الحدوث، رغم كل شيء؛ رغم طابع حواديت الأطفال.
صحيحٌ -بعد هذا- أن النهايات الغرائبية النادرة أكثر ملاءمة لأنواع أدبية أخرى غير التي تعرض الحياة اليومية العادية، لكن من المؤكد أن الفكرة الأصلية (ربح اليانصيب)، والتي هي استثنائية للشخص العادي مع كونها متكررة بحكم تحققها الدوري؛ المؤكد أنها ساعدت “لائحة رغباتي” فوسَّعت مجال الإغراب المتاح للخاتمة.