قصة شياطين الشعراء

لافظٌ صاحب امرىء القيس، هبيد صاحب عبيد بن الأبرص وبشر، وأما هاذرٌ فصاحب زياد الذبياني

قال ابن المروزي: حدثني أبي قال: خرجت على بعير لي صعبٍ، يمر بي لا يملكني من أمر نفسي شيئاً، حتى مر على جماعة ظباءٍ في سفح جبل على قلته رجلٌ عليه أطمارٌ له، فلما رأتني الظباء هربت..

فقال: ما أردت إلى ما صنعت؟ إنكم لتعرضون بمن لو شاء قدعكم عن ذلك، قال: فدخلني عليه من الغيظ ما لم أقدر أن أحمله، فقلت: إن تفعل بي ذلك لا أرضى لك، فضحك، ثم قال: إمض عافاك الله لبالك، قال: فجعلت أردد البعير في مراعي الظباء لأغضبه، فنهض وهو يقول: إنك لجليد القلب!

ثم أتاني فصاح ببعيري صيحةً ضرب بجرانه الأرض، ووثبت عنه إلى الأرض، وعلمت أنه جان، فقلت: أيها الشيخ! إنك لأسوأ مني صنيعاً. فقال: بل أنت أظلم وألأم، بدأت بالظلم ثم لؤمت في تركك المضي، فقلت: أجل! عرفت خطئي.

قال: فاذكر الله فقد رعناك، وبذكر الله تطمئن القلوب، فذكرت الله تعالى، ثم قلت دهشاً: أتروي من أشعار العرب شيئاً؟ فقال: نعم! أروي وأقول قولاً فائقاً مبرزاً، فقلت: فأرني من قولك ما أحببت، فأنشأ يقول: البسيط..

طافَ الخيالُ علَينا لَيلةَ الوادي

من آلِ سَلمى ولم يُلمِمْ بميْعادِ

 

أنّى اهتَديتَ إلى مَن طالَ لَيلُهُمُ

في سَبسبٍ ذاتِ دَكْدَاكٍ وأعقادِ

 

يُكَلِّفُونَ فَلاها كلَّ يَعْمَلَةٍ

مثلَ المَهاةِ، إذا ما حَثَّها الحادي

 

أَبلِغْ أبا كَرَبٍ عنّي وأُسْرَتَهُ

قولاً سَيَذهَبُ غَوراً بعدَ إنجادِ

 

لا أعرِفَنَّكَ بَعْدَ اليَومِ تَندُبُني

وفي حَياتيَ ما زَوَّدْتَني زادي

 

أمَّا حِمامُكَ يوماً أنتَ مُدرِكُهُ

لا حاضرٌ مُفلِتٌ منهُ، ولا بادِ

فلما فرغ من إنشاده قلت: لهذا الشعر أشهر في معد بن عدنان من ولد الفرس الأبلق في الدهم العراب هذا لعبيد بن الأبرص الأسدي، فقال: ومن عبيد لولا هبيد! فقلت: ومن هبيد؟ فأنشأ يقول: المتقارب..

أنا ابنُ الصّلادِمِ أُدعى الهبيدَ،

حبَوتُ القَوافيَ قَرْمَيْ أسَدْ

 

عَبيداً حَبَوتُ بمأْثُورَةٍ،

وأَنْطَقْتُ بِشراً على غَيرِ كَدّ

 

ولاقَى بمُدرِكَ رَهطُ الكُمَيتِ

مَلاذاً عَزيزاً ومَجداً وَجَدّ

 

مَنحاناهُمُ الشِّعرَ عن قُدرَةٍ

فهَل تَشْكُرُ اليَومَ هذا مَعَدّ

فقلت: أما عن نفسك فقد أخبرتني، فأخبرني عن مدرك، فقال: هو مدرك بن واغم، صاحب الكميت، وهو ابن عمي، وكان الصلادم وواغم من أشعر الجن..

ثم قال: لو أنك أصبت من لبنٍ عندنا؟ فقلت: هات، أريد آلأنس به، فذهب فأتاني بعسٍّ فيه لبن ظبي، فكرهته لزهومته فقلت: إليك، ومججت ما كان في فمي منه، فأخذه ثم قال: إمض راشداً مصاحباً! فوليت منصرفاً فصاح بي من خلفي: أما إنك لو كرعت في بطنك العس لأصبحت أشعر قومك.

قال أبي: فندمت أن لا أكون كرعت عسه في جوفي على ما كان من زهومته، وأنشأت أقول في طريقي، الطويل..

أسِفتُ على عُسِّ الهَبيدِ وشُربِهِ،

لَقَدْ حَرَمَتْنيهِ صُرُوفُ المَقادِرِ

 

ولو أنَّني إذْ ذاك كنتُ شَرِبتُهُ

لأصْبَحتُ في قَوميْ لَهم خيرَ شاعرِ

وعنه قال: قال مظعون بن مظعون بن مظعون الأعرابي: لما حدثني أبي بهذا الحديث عن نفسه لهجت به، وتعرضت لما كان أبي يتعرض له من ذلك، وأحببت، إذ علمت أن لشعراء العرب شياطين تنطق به على ألسنتها، أن أعرف ذلك، ورجوت أن ألقى هاذراً أو مدركاً اللذين ذكر الهبيد لأبي، وكنت أخرج في الفيافي ليلاً ونهاراً، تعرضاً لذلك، ولم أكن ألقى راكباً إلا ذاكرته شيئاً مما أنا فيه، فلا يزال الرجل يخبرني بما استدل على ما سمعت حتى جمعت من ذلك علماً حسناً، ثم كبرت سني وضعفت ولزمت زرود، فكنت إذا ورد علي الرجل سألته عن ذلك..

فوالله إني ليلةً من ذلك لبقناء خيمةٍ لي إذ ورد علي رجلٌ من أهل الشام، فسلم ثم قال: هل من مبيتٍ؟ فقلت: أنزل بالرحب والسعة! قال: فنزل، فعقل بعيره ثم أتيته بعشاءٍ فتعشينا جميعاً، ثم صف قدميه يصلي حتى ذهبت هدأةٌ من الليل، وأنا وابناي أرويهما شعر النابغة، إذ أنفتل من صلاته، ثم أقبل بوجهه إلي فقال: ذكرتني بهذا الشعر أمراً أحدثك به، أصابني في طريقي هذا منذ ثلاث ليال.

فأمرت ابني فأنصتا ثم قلت له: قل، فقال: بيننا أنا أسير في طريقي ببلقعةٍ من الأرض لا أنيس بها إذ رفعت لي نارٌ فدفعت إليها، فإذا بخيمةٍ، وإذ بفنائها شيخٌ كبير، ومعه صبيةٌ صغارٌ، فسلمت ثم أنخت راحلتي آنساً به تلك الساعة، فقلت: هل من مبيتٍ؟ قال: نعم في الرحب والسعة! ثم ألقى إلي طنفسة رحلٍ، فقعدت عليها، ثم قال:

ممن الرجل؟ فقلت: حميريٌّ شامي، قال: نعم أهل الشرف القديم، ثم تحدثنا طويلاً إلى أن قلت: أتروي من أشعار العرب شيئاً؟ قال: نعم، سل عن أيها شئت! قلت: فأنشدني للنابغة! قال: أتحب أن أنشدك من شعري أنا؟ قلت: نعم! فاندفع ينشد لمرىء القيس والنابغة وعبيد ثم اندفع ينشد للأعشى، فقلت: لقد سمعت بهذا الشعر منذ زمانٍ طويلٍ.

قال: للأعشى؟ قلت: نعم! قال: فأنا صاحبه، قلت: فما اسمك؟ قال: مسحلٌ السكران بن جندل، فعرفت أنه من الجن فبت ليلةً ألله بها عليمٌ ثم قلت له: من أشعر العرب؟ قال: إرو قول لافظ بن لاحظ وهيابٍ وهبيدٍ وهاذر بن ماهر، قلت: هذه أسماء لا أعرفها.

قال: أجل! أما لافظٌ فصاحب امرىء القيس، وأما هبيد فصاحب عبيد بن الأبرص وبشر، وأما هاذرٌ فصاحب زياد الذبياني، وهو الذي استنبغه، ثم أسفر لي الصبح، فمضيت وتركته، قال الزرودي: فحسن لي حديث الشامي حديث أبي.

 

قصة شياطين الشعراء،لافظ و هبيد و هاذر