روح امرأة: كتاب نسوي جديد للكاتبة إيزابيل الليندي

لا يخفى عن الجميع أن إيزابيل الليندي امرأة قوية وذات لسان قادر على إخراس جميع الألسنة الأخرى، تعمل باستمرار على نصرة المرأة في كل زمان ومكان، وتأمل لكتبها أن تعيش قرونًا خلف قرون، لتقوم بتربية أجيال من النساء المتحررات. أعمالها النسوية كثيرة، وفي رواياتها التي لا تتمحور حول النسوية، تجد أن أفكار النسوية ومبادئها، متناثرة في جميع أنحاء الحبكة بشكلٍ ملحوظٍ للغاية.

كتاب روح امرأة والصدام المعهود

واليوم يبدو أنها قررت تحطيم أوثانٍ جديدة، وإشعال غضب الذكوريين أكثر وأكثر، حيث أصدرت كتابًا جديدًا تحت عنوان “روح امرأة – The Soul of a Woman”، عن دار Ballantine Books الشهيرة، بإجمالي عدد صفحات 192 صفحة فقط. وصدقًا، الكتاب صغير، لكن صداه عملاق بحق!

بمجرد صدور كتاب The Soul of a Woman – روح امرأة في 2 مارس 2021، تناولته الصحف ووكالات الأنباء بعد دقائق، وبعد ساعات بدأت المراجعات تظهر على السطح. وهنا بدأ الصدام المعهود بين النسوية والذكورية في معترك الفِكر، والصحف التي كانت تغطي الكتاب بحيادية في البداية، أخذت في التحيز لأحد الطرفين على حساب الآخر، والحروب القلمية باتت هي المسيطرة على المشهد الصحفي.

لكن السؤال هنا.. ما الذي يجعل كتاب روح امرأة مشعلًا لغضب الذكوريين لهذا الحد؟ كتب إيزابيل الليندي السابقة أجل أججت مشاعر الحنق تجاهها من قِبل الذكوريين، لكن ليس بهذا القدر، ليس لدرجة أن يصير التريند على تويتر في فترة وجيزة، وليس لدرجة أن تكتب عنه كُبرى الصحف بمزيج من التنكيل تارة، والتقديس تارة أخرى.

بالتأكيد هناك سر.. وهذا محور حديث اليوم..

مثل نيتشه..

أعمال إيزابيل الليندي تتمثل في الرغبة الدفينة للإنسان نحو تغيير حياة الآخرين للأفضل. هناك من قرر في يوم من الأيام أن يقوم بعمل كتاب كبير اعتبره دستورًا إنسانيًّا يتحدى به الدساتير اللاهوتية، كان الفليسوف الشهير فريدريتش نيتشه، والكتاب كان تحت عنوان: “هكذا تكلم زرادشت“.

في بداية الكتاب، سرد الفليسوف الراحل، وقال إن هذا الكتاب للجميع ولغير أحد. بالطبع اختلفت التفسيرات لهذه العبارة بالتحديد، لكن قال الكل إن الكتاب موجه للجميع، حيث يرى نيتشه أن الناس يمكن أن يتغيروا للأفضل، وأن يتقبلوا ضعفهم ويؤمنوا به، مما يساعد بالتبعية على نبذه، والارتقاء إلى منزلة الإنسان الأعلى، إنسان متلحف بالقوة ونابذ للضعف. لكن إيزابيل تختلف مع نيتشه في شيء، إنها لا ترى أن الطباع البشرية التقليدية عبارة عن ضعف، بل هي خصال تميزنا عن بعضنا البعض، وتُعطي لكل شخص البصمة النفسية والمجتمعية التي تجعله؛ ذاته.

كان على العديد من الفتيات أن يعشن الحياة، لم تستطع أمهاتنا أن تحياها. _ من كتاب روح امرأة لإبزابيل الليندي

لذلك لطالما كانت أعمال الكاتبة إيزابيل الليندي شخصية النزعة بدرجة كبيرة، حتى وإن كانت شخصياتها خيالية تمامًا، فيمكن أن تستشعر روحها في الكتابة، وهذا ستدركه عند قراءة أكثر من عمل لها، ستجد وقتها فعلًا أن الكاتبة هي المتحدثة بلسان الشخصيات، مع اختلافات طفيفة حسب أسلوب معيشة كل شخصية في كل رواية بشكلٍ منفرد.

هذا خلق البصمة الفنية للكاتبة في مجال الأدب، وهذا ما جعل كتابها الجديد روح امرأة على وجه التحديد، طفرة!

الارتقاء إلى مستوى أعلى

مع اقتراب الكاتبة إيزابيل الليندي من سن الـ 80، تهاوت في أروقة عقلها الكثير من الأفكار، وكان يجب أن يتم فعل شيء لإعادة إقامة صلبها من جديد. وبالنسبة للكتّاب -وأنا منهم- لا يوجد شيء أفضل من إخراج الأفكار إلى النور، بهدف تقليل الركام المتراصّ فوق عقلك ليل نهار. حتى وأنا أكتب هذا المقال الآن، هناك ركام من الأفكار المقلقة فوق رأسي، ونوعًا ما أساعد على تفتيته ونقله بينما أتحدث إليكم.

الإنسان في ذلك العمر لا يبقي على شيء تقريبًا، يشعر وكأن الحياة أعطته بما فيه الكفاية ليكون محل ثقة، وليعطي النصيحة للآخرين. أراهن أن إيزابيل الليندي كانت تريد تقديم هذا الكتاب منذ فترة طويلة جدًا، لكن آثرت تأجيل الفكرة حتى تكتنز من الحياة الخبرات الكافية لتقديم عمل أدبي يعيش لسنين وسنين.

النظام الأبوي صخري وجامد، والنسوية مثل المحيط، سائلة وعميقة ولها تعقيدات وليست مرهونة بحدود الحياة. النسوية تتحرك كالأمواج والتيارات والمد والجزر، وأحيانًا أيضًا العواصف العاتية. إنها كالمحيط، إن النسوية لا تصمت. _ من كتاب روح امرأة لإبزابيل الليندي.

الكتاب الجديد روح امرأة ليس رواية طويلة، ولا نوفيلا قصيرة، ولا كتابًا معلوماتيًّا أيضًا، إنه أدب اعترافات – Literature confessions، أسمعتم عنه؟

هذا الأدب يقص فيه الكاتب حياته الشخصية بطريقة لم تُسرد من قبل في أي كتاب آخر. لكن الفرق بين أدب الاعترافات والبيوغرافيا الذاتية، أن الاعترافات فيها روح الكاتب، تعبيراته العاطفية، حزنه وفرحه وغضبه، وكل شيء يمثله كإنسان حيّ. لكن البيوغرافيا عادة ما تكون خالية من الألوان، وتعتمد على السرد المتتابع وكأنها كتاب تاريخ.

كتاب روح امرأة سرد لسيرتها الذاتية وقصة حياتها منذ الطفولة، وحتى كونها إيزابيل الليندي التي نعرفها جميعًا هذه الأيام. كتاب قصير، لكن مكثف فعلًا. تتحدث فيه الكاتبة عن كونها كبرت ووجدت أمها مطلقة من رجل تركها مع ثلاثة أطفال، ولم يهتم بهم على الإطلاق بعد ذلك. كما أن حياتها في المدرسة لم تكن سهلة، حيث تم طردها من المدرسة المدارة من قِبل راهبات ألمانيات، نظرًا لكونها عنيدة بشدة، وهذا بات من خصالها الأصيلة بعد المأساة التي تعرضت لها أمها عندما رضخت للرجال واعتمدت عليهم.

نحن نميل إلى المماطلة بالنسبة للأطفال وزملاء الدراسة والآباء وكل شخص آخر تقريبًا. نحن نخضع ونضحي من أجل الحب الذي يبدو لنا في قمة النبل. _ من كتاب روح امرأة لإبزابيل الليندي.

إضافة إلى ذلك، فقد تزوجت الكاتبة إيزابيل الليندي في سن الـ 20، وباتت أمًا لطفلين بسرعة، مما غذى فيها شعور العجز وقلة الحيلة. لكن لاحقًا أتت الانفراجة، حيث انضمت إلى مجلة لتطرح أفكارها للجمهور ولتكون مسموعة أخيرًا. وهناك وجدت إيزابيل الليندي المساحة الآمنة للتعبير عن الرأي، وسط صديقاتها اللاتي يتشاركن معها نفس الأفكار والميول الحياتية. وجودها في تلك المجلة بالتحديد، ساعد على انتشارها وتعريفها بعد ذلك، بالمرأة التي صارت أيقونة الحركة النسوية الثانية.

تحدثت إيزابيل الليندي في كتاب روح امرأة عن موضوعات كثيرة، وليس فقط عن المرأة. حيث أدلت بدلوها في موضوعات مثل الحب، الزواج، الجنس، الدين، القضايا الاجتماعية والسياسية، وغيرها من المواضيع والمحاور التي تلمس كل إنسان في أي دولة بالعالم، وفي أي زمان. مما يجعل هذا الكتاب محصنًا ضد المستقبل بدرجة كبيرة فعلًا. ومن يدري، ربما تمر السنين، وأذهب مع حفيدي لأحد متاجر الكتب وأقول له انظر يا فتى، هذا الكتاب كان لرائدة نسوية عظيمة، تدعي إيزابيل الليندي ويجب أن تقرأ لها لتكون إنسانًا أفضل.

النظام البطريركي في رأي إيزابيل الليندي

النظام البطريركي – Patriarchy أو النظام الأبوي ببساطة هو النظام الذكوري البحت في أي زمان ومكان. إنه النظام المعتمد على سطوة الذكر على الأنثى، في مختلف المجالات. وحتى بعد أن صرنا في الحاضر الذي فيه حقوق الإنسان تعطي للإنسان حقوقه فعلًا؛ يوجد بيننا الكثير من أبناء النظام الذكوري. في المجتمعات العربية الوضع ميؤوس منه، لكن في المجتمعات الغربية، هنا يأتي دور الفِكر، ويأتي دور الكتاب الجديد.

إبزابيل الليندي لها نظرة خاصة تجاه النظام الذكوري بمستواه الكبير (الحكومة والمجتمع) ومستواه الصغير (الأسرة والمنزل)، وقالت في كتابها روح امرأة عن هذا:

أنا كنت نسوية منذ كوني في رياض الأطفال، وأنا لا أبالغ.

وهذا لتعاملها مع الوضع السيئ الذي وجدت فيه أمها المظلومة من جميع الذكور حولها، وتصاعد لاحقًا لطردها من المدرسة أكثر من مرة. ولذلك هي تكره النظام التسلطي الأبوي بالكامل، حتى قبل أن تكبر وتصير ذات أيدولوجية نسوية. وهذا إن دل على شيء، فيدل على أن الإنسان يكره الظلم بجميع أشكاله، حتى قبل أن يكبر ويكتسب الخلفية الأيدولوجية لأفعاله ذاتها.

كما أن إيزابيل الليندي قالت عن كتابها روح امرأة شيئًا هامًا للغاية، وهذا لعدم جعل الناس يعتقدون أنه بالكامل نسويّ وبالكامل موجه للهجوم على جميع الذكور في الحياة، حيث سردت نصًا:

وجدت نفسي أكتب، لكن لم أقدر على تصنيف كتاباتي تلك. إنها ليست مذكرات، وليس كذلك دليلًا للنسوية.

بتلك الكلمات تقول إيزابيل الليندي للجمهور بشكلٍ غير مباشر، أن ينظروا للكتاب على أنه أدب اعترافات ببساطة، إنه ليس أداة للتنكيل بالذكورية في الميادين والساحات، وكذلك ليس مذكرات خالية من المشاعر. إنه أدب، والأدب يستحق أن يتذوقه الناس بهدوء وروية، مع كوب من القهوة أو الشاي الأخضر.

إيزابيل الليندي تاريخ حافل

قدمت إيزابيل الليندي في تاريخها الأدبي الحافل الكثير من الأعمال الأدبية والروائية المميزة، لكن على سبيل الاختصار يمكن القول إن أبرز ما قدمت للعالم هي كوكبة روايات منها على سبيل المثال وليس الحصر: بيت الأرواح، الحب والظلال، ابنة الحظ، صور عتيقة، الجزيرة تحت البحر، وغيرها. الجزيرة تحت البحر على وجه التحديد تعتبر واحدة من أبرز كتاباتها فعلًا.

والآن يمكن القول إن للكاتبة إيزابيل الليندي تاريخ حافل بالأعمال الأدبية الممتازة والرصينة، وأن كتابها الجديد روح امرأة لم يضف لمسيرتها الفنية أطنانًا من الشهرة والحب فقط، بل أيضًا عمل على خلق موجة من الاهتمام الملحوظ من قِبل وسائل الإعلام والصحافة على مستوى العالم كله، وعمل كذلك على شحذ همة الذكوريين تجاهها، ليظهروا سطحيتهم عن طريق السفسطة في الصحف والمجلات.