رواية «قنديل أم هاشم»

رغم كل التطورات العلمية والتكنولوجية ورغم العديد من الثورات والتغيرات التي حدثت في العالم العربي فإنه يبقى حتى اليوم متأثرًا بالعديد من رواسب العادات والتقاليد المجتمعية والدينية التي قد تؤخر مسيرته وتعرقل خطواته نحو التقدم والمزيد من الوعي لا سيما فيما يتعلق بعلاقته بالعلم والتقدم، تلك العلاقة شديدة الالتباس والخصوصية قام برصدها عدد من المفكرين والكتاب والروائيين منذ مطلع القرن العشرين، ولا يزال الحديث حولها دائرًا كلما ظهر على السطح طرق وأساليب حديثة لمواجهة أخطار أو كوارث عامة.

 ثمانون عامًا مرت على صدور رواية «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي، أوائل 1940، تلك الرواية/ النوفيلا البسيطة والمؤثرة التي سرعان ما أصبحت من أهم علامات الرواية المصرية المعاصرة، والتي استطاع أن يؤصّل فيها الروائي الكبير لفكرة المواجهة بين الشرق بكل ما يحتوي عليه من تدين وعادات وتقاليد مجتمعية تقيد كل أفكار التطور العلمي، والغرب وما يمثله من تقدم وتكنولوجيا وأخذ لأسباب التقدم العلمي والتكنولوجي في شتى مناحي الحياة.

ثمانون عامًا تغيّر فيها الكثير من الأوضاع السياسية والاجتماعية والتعليمية في مصر والعالم العربي، رحل الاحتلال وقامت ثورات وتغيّر الحكام، ولا يزال المجتمع العربي حتى الآن محاطًا بالكثير من العادات والتقاليد المرتبط بالدين الشعبي الذي يفرض حضوره على كل مناحي الحياة العامة والخاصة، مهما بلغ درجة العلم والثقافة في المجتمع.

لم يعد الأمر مقتصرًا إذًا على بطل الرواية «إسماعيل» الذي نشأ وتربى في كنف السيدة زينب وسط عادات وتقاليد مجتمعية خاصة، وجاءته فرصة السفر لدراسة الطب في ألمانيا، حيث يتعرف على الحضارة الأوروبية لأول مرة، ويأتي حاملاً شعار العلم والتنوير في مقابل الجهل والظلام. بل استمرت تلك الرؤية حتى في ظل الانفتاح الهائل اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا، وبقي أمثال إسماعيل موجودين وغير فاعلين!

بلاغة الإيجاز والرسالة المحددة

 لعل أكثر ما يلفت انتباه القارئ في الرواية أنها رواية قصيرة، بل هي بالفعل «نوفيلا» بمقاييس العصر الحديث إذ إنها لم تتجاوز 60 صفحة، ولكنها فاقت في شهرتها وذيوعها وأهميتها الكثير من الروايات الطويلة في حينها، ذلك أن يحيى حقي استطاع أن ينقل من خلالها مشكلة البطل وعالمه وانتقاله من الشرق للغرب، وكيف أثرت فيه حياته السابقة وحياته التالية، وكيف كانت محاولاته الشديدة لتغيير، تلك التي باءت كلها في النهاية بالفشل!

كل ما فعله إسماعيل بعد ذلك يدل على أن المرض العصبي القديم قد عاوده فجأة، وانفجر بشدة من جديد، فقد وعيه وشعر بحلقه يجف، وبصدره يشتعل، وبرأسه يموج في عالمٍ غير هذا العالم، شب على قدميه واقفًا، لا شك أن في نظرته ما يخيف، فقد تضاءلت الأم أمامه وابتعد الأب عن طريقه. هجم إسماعيل على أمه يحاول أن ينتزع منها الزجاجة فتشبثت بها لحظة ثم تركتها له، فأخذها من يدها بشدة وعنف، وبحركة سريعة طوّح بها من النافذة.. كان صوت تحطمها في الطريق دوي القنبلة الأولى في المعركة.. تزايد هياجًا وانطلق إلى الباب.. لن ينكص عن أن يطعن الجهل والخرافة في الصميم طعنة نجلاء، ولو فقد روحه!

لم تكن الحكاية حكاية إسماعيل فحسب، بل هي حكاية كل إسماعيل في هذا المجتمع، ولعل البطل كان له من اسمه نصيب، ولم يأتِ اختياره عشوائيًا، فهو في تلك المرحلة التي تجمع بين المصري والعربي في آنٍ معًا، وهو بتعليمه ودراسته وسفره للخارج لديه تلك الفرصة الاستثنائية التي ربما لم تتكرر للكثير من معاصريه، ولكن يبدو أن المجتمع بالفعل لم يكن مهيئًا لأي نوعٍ من التغيير، فما الذي حدث بعد كل هذه السنوات؟!

في النهاية يتسسلم «إسماعيل» لقدره ومجتمعه وبيئته، يتأمل ضريح «السيدة زينب»، ويتوقف في مزيج من الدهشة والإعجاب مع الطريقة التي يتعامل بها هؤلاء البسطاء والمجاذيب الذين يحيطون الميدان مع حياتهم، إنها مواجهة أيضًا، ربما تفتقد كل أسباب العلم ولا تأخذ بما توصّلت إليه الأبحاث الحديثة والتكنولوجيا، ولكنها طريقتهم في مواجهة الحياة، ويبدو له فجأة أن هذه الطريقة ناجحة تمامًا، بل وأن مواجهتها ضربٌ من الجنون!

كم من عمليةٍ شاقة نجحت على يديه بوسائل لو رآها طبيب أوروبا لشهق عجبًا، استمسك من علمه بروحه وأساسه. وترك المبالغة في الآلات والوسائل اعتمد على الله، ثم على علمه ويديه.

ما ابتغى الثروة ولا بناء العمارات وشراء الأطيان، وإنما قصد أن ينال مرضاة الفقراء شفاءهم على يديه. وتزوج إسماعيل فاطمة وأنسلها خمسة بنين وست بنات.

كان في آخر أيامه ضخم الجثة أكرش أكولاً نهمًا، كثير الضحك والمرح، ملابسه مهملة، تتبعثر على أكمامه وبنطولنه آثار رماد سجائره التي لا ينفك يشعل جديدة من منتهية.

وأصيب بالربو فاحتقن وجهه وتندى العرق من جبينه، وأصبح من يراه لا يدري أهو متعب أم مستريح.

هكذا ينهي يحيى حقي الصراع، وهكذا يضع وصفته التي لا تختلف كثيرًا مع الوصفة التي يواجه بها المصريون المصائب والكوارث والأوبئة طوال الوقت، ليس بالخضوع لما ينادي به العلم والعلماء، وإنما بالجمع الغريب بين معتقداتهم وأفكارهم التي ربما تكون خرافية تمامًا، سواء استندت إلى موروث شعبي أو ديني، وبين الأخذ بأطراف من العلم والجمع بين هذا وذاك، وهو الذي ينتهي بهم إلى صورةٍ مشوهة بالتأكيد.

ربما يرى البعض في هذه الصورة استسلامًا وسوداوية من الكاتب، لا سيما بعد البداية الطموحة القوية التي جاء بها بطل الرواية، ولكن هذه الصورة هي ما فرضه على الكاتب ذلك الواقع الذي عاشه وعايشه يحيى حقي وغيره في أربعينيات القرن الماضي، والمفاجأة أنه رغم مرور كل هذه السنوات لا يزال ذلك الطبيب هو النموذج العام والسائد، وما زلنا نسمع بمن يتبارك بزيارة السيدة زينب ويظن أنها ستدفع عنه المرض وتشفي أبناءه وتنزع البلاء عن عائلته!

الشرق والغرب صراع مستمر

لم تكن «قنديل أم هاشم» هي الرواية الوحيدة بالتأكيد التي رصدت واهتمت بهذا النوع من الصراع الدائر بين الشرق وأفكاره ومعتقداته والغرب وعالمه وانفتاحه، بل اهتم الكثير من الروائيين العرب بعرض تفاصيل وملامح تلك العلاقة بأشكال مختلفة وبطرق متباينة، فقد سبقها رواية «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم والتي تدور أيضًا حول نفس الفكرة فنجد الطالب المصري الذي يسافر إلى فرنسا للتعلم ويقع في غرام فتاة هناك ويحبها، وتدور حوارات ومقارنات بين الشرق والغرب، ويبدو أن الموضوع بشكلٍ عام يستهوي الكثير من الروائيين، فنجد أيضًا رواية  «موسم الهجرة إلى الشمال» ذائعة الصيت للروائي السوداني الطيب صالح تصور أيضًا تلك العلاقة الجدلية وتتمحور حول ذلك الشاب «مصطفى سعيد» الذي يسافر للتعلم ويعتبر نفسه غازيًا للغرب في دياره، وما يدور في نفسه من صراعات وأفكار حول الدين والحب والجنس والحياة بشكل عام.

في النهاية يبقى أن قنديل أم هاشم واحدة من أوائل الروايات التي تناولت تلك العلاقة الملتبسة بين الشرق الغرب، والتي سعت جاهدة لتوضيح أن هناك مسافة كبرى بين العلم والتقدم، وبين حياة الناس وتقاليدهم الراسخة التي لا تتغير، والتي يبدو أثرها مستمرًا رغم كل التغيرات التي تحدث حتى اليوم.

كتب PDF ، كتب و روايات PDF ، أفضل تجميعات الكتب، كتب عالمية مترجمة ، أحدث الروايات و الكتب العربية ،أفضل ترشيحات الكتب و الروايات، روايات و كتب عالمية مترجمة.