دروس من شكسبير: عن كيفية النجاة من الوباء بقليل من روح المرح والدعابة

اجتاح الطاعون أرجاء مدينة لندن في عصر شكسبير، فيما كنا نظنه –حتى وقت قريب– حقبة وبائية مضت إلى غير رجعة، وكان الطاعون قد أهلك سكان العاصمة بموجات تفشٍ متتالية، فأدى إلى إجراءات صارمة كتلك التي أمست مألوفة لنا في عام 2020، ولم تقتصر على غلق الأماكن العامة.

وبينما لم تُرفع الستائر في الكثير من مسارح العالم (كما في مسرح الجلوب)، صار العالم ذاته مسرحًا تتكشف على خشبته مأساة حقيقية؛ مأساة اتصفت بالخسارة الشخصية والحنين، والضجة والغضب السياسيين. وعلى الرغم من أننا ربما لا ندري متى سيتاح لنا مجددًا الاستمتاع بعرض لإحدى مسرحيات شكسبير، إلا أنه لا شك أن كتاباته أصبحت أكثر إلحاحًا، وارتباطًا، وفهمًا بوضعنا اليوم، في هذا الزمن المربك المحير.

من الحقائق القائمة أنه ما من مسرحية لشكسبير لا يُقْدم فيها الكاتب على تصوير الوباء في زمنه دراميًا وصراحةً، ولعل السبب في هذا أن شكسبير كان يسعى إلى تقديم مهرب لجمهوره من المعاناة والقلق الذي كان يتربص بهم خارج أسوار المسرح، وليس تذكيرًا به. وباستثناء مقولة ميركوتيو الغاضبة عندما يلعن قائلًا “وباء على منزليكما”، فإن الكلمة ذاتها لا تستخدم إلا نادرًا، وإن ظلت ذات تأثير هائل. وفي مسرحية “تيمون أثينا” نجد الحاكم، الذي حمل ذات الاسم، يلقى بتعليمات مثيرة لقائده ألسيبياديز، إذ يجتاح المدينة، آمرًا إياه “لتكن وباءً كوكبيًا”. أما مسرحية “الملك لير”، وهي مسرحية كتبت عام 1606 أثناء إغلاق المسرح، فتضم في طياتها بيتًا طالما بدا مناسبًا، يقول:

“إنه وباء هذا الزمان، إذ يقود المجانين فاقدي البصر”.

إلا أنه من المثير للفضول أن الوباء لا يظهر في المسرحيات باعتباره ظاهرة مثيرة للقلق فقط، وإنما أحيانًا يأتي كمصدر من مصادر الكوميديا. ففي مسرحية “الليلة الثانية عشر”، تقارن أوليفيا بدعابة بين الوباء والحب مرضًا، إذ تقول تعليقًا على وقوعها في غرام فيولا: “ما أسهل إصابة المرء بالوباء”. لا شك أن هذه الكلمات كانت لتثير ضحك الجمهور الإليزابيثي الواعي، فمثل هذه الدعابة السوداء الرقيقة كانت كفيلة بوضع ذلك الخطر غير المنظور الذي كان يكتنف حياتهم اليومي في سياقه ومن ثم تبديد غموضه. ولقراء اليوم، فإن هذا البيت لا يحمل فقط صدى يلائم الأوقات الحالية، وإنما يعلمنا أيضًا قيمة أن نحول آلامنا ونترجمها إلى لحظات مخطوفة من الخفة التي تساعد على تخفيف مخاوفنا.

إلا أن ملائمة شعر شكسبير لا تقتصر فقط على خصوصيتها، وإنما تمتد إلى طابعها العالمي وألفاظها الدقيقة. فلم تهدف أعماله قط إلى تصنيف البشرية بعناية، أو أن توصف للجمهور ما يفكرون فيه أو يشعرون به، فطالما كان شيكسبير نصيرًا للقواسم المشتركة بيننا، وتعددية العواطف والآراء التي تميزنا، بما يتيح لها أن تتجاوز الحقب المختلفة. وبعد مرور أربعة قرون من الزمان، لا زال بإمكاننا الاعتماد على الكاتب المسرحي لمساعدتنا في ترسيخ الأزمة الحالية، بل واستيعابها، حتى في تلك النصوص التي لا تحتوي إشارة مباشرة للجائحة.

وما من كاتب عمل على سبغ أغوار الخبرة الإنسانية وانفعالاتها وتنوعها، وبينما نحاول تفهم المدى الكامل للمشاعر التي يشعلها هذا العالم الجديد الغريب الذي يعصف فيه وبه فيروس الكورونا، فلا شك أن اللجوء إلى شكسبير بحثًا عن اللإرشاد ليس بأسوأ الأمور؛ فنجد، على سبيل المثال، في خضم وحشية مسرحية “ماكبث” وقسوتها، أبياتًا تثير فينا شجنًا، وتدفعنا إلى التعبير عن آلامنا ومشاركتها. فتقدم كلمات مالكوم الحكيمة النابعة من القلب –”امنح كلمات الحزن: فالأسى الذي لا حديث له/يهمس للقلب المشحون فيأمره أن ينفطر”– التي ينطق بها لماكدوف مواسيًا، عندما يعلم الأخير بمقتل زوجته وأبنائه، تقدم النصح الخالد، وخاصة في هذا العام الذي نجد أنفسنا فيه منعزلين عن الأصدقاء والعائلة، ويزداد ميلنا إلى كتم مشاعرنا.

فعندما يفيض حنيننا إلى أحبائنا الذين نشتاق إليهم، فإننا نجد صحبة هنية في تلك السونيتات المكروبة (والمفتقدة بعض الشيء)، أو ربما في أكثر شخوص الأدب المتيمة حبًا شهرة، جولييت. ومع عدنا للأيام والأسابيع والشهور الطويلة إلى أن نتمكن من لم الشمل مع المقربين لنا، فإننا قد نجد أنفسنا نتوسل الزمن أن يهرع كما تفعل جولييت معلنةً: “أيتها الفرسة نارية الأرجل، أسرعي.. لتأتي يا ليل، لتأتي يا روميو، لتأتي أيها النهار في الليل.. كم مضجر هذا اليوم/كما هي الليلة التي تسبق مهرجانًا / لطفلة نافذة الصبر امتلكت ثوبًا جديدًا/ وربما لن ترتديه”. ولكننا نعرف أن اندفاعها الغض (فهي لم تتجاوز الثالثة عشر من العمر)، وتشجيعها المتهور لوتيرة الزمن الساحرة، إنما يسهم بالقدر الكبير في مأساتها، ولعل المفيد لنا هنا أن ننتبه للتحذير ونلتزم الصبر.

بالطبع سنواجه أوقاتًا نبحث خلالها عن مهرب أكثر لطفًا، أو عن بارقة أمل تضئ الظلام القائم حاليًا. فقد كان شكسبير بارعًا في الأضداد؛ فهو كاتب مسرحي لا يضاهى في تنوع كتاباته بين المأساة والتاريخ، والرومانسية والكوميديا.

وهناك الكثير من هذه الأنواع الأدبية –من السجال الغزلي بين بينيديك وبياتريس في مسرحية “جعجعة بلا طحن” في كلمات “ألا تحبني؟” يقول: “لا، ليس أكثر من المنطق”، إلى لم الشمل المبهر للتوأم في “الليلة الثانية عشر” في كلمات “ينبغي أن أترك دموعي تنهمر على خديك، وأقول “مرحبًا ثلاثًا، فيولا الغارقة!”، وهي كلمات قادرة على انتشال القارئ الأكثر قنوطًا. بل أن لم الشمل المبهج هذا بين فيولا وشقيقها المفقود سيبستيان (بعد أن ظن كل منهما أن الآخر مات)، ربما بدا فيما سبق لا يزيد عن أداة عجيبة مبتكرة لاستمرار الحبكة، أما الآن، فقد أمسى المشهد مشحونًا بأحاسيس جياشة، وأمل في لقاءاتنا الخاصة.

وتثير كلمات شكسبير الرائعة عن عجائب الطبيعة العديدة ذات الإحساس بالملاذ والتفاؤل الذي قدمته بعض أعمال الشاعر المرحة. وعندما تسحرنا شخصيات شيكسبير المركبة نفسيًا، أو تعقيدات حبكته، يسهل علينا أن ننسى أنه كان أيضًا شاعرًا متمكناً من ناصية الشعر. فقد نشأ شيكسبير في مقاطعة وارويكشاير الريفية، وكان حفيد مزارعين وصهرًا لمزارعين، فكان دون شك على دراية كاملة بعالم الطبيعة ما وراء لندن في عصر اليزابيث. وفي هذه المقاطع الرعوية نجد شكسبير مفعمًا بالأمل، وكلماته الأكثر سكينة. وخلال هذا العام الذي وجدنا فيه أنفسنا ناسكين داخل بيوتنا، مع خضوع الكثير منا للحجر في مدن من الأسمنت، فإننا نسافر إلى رحابة مناظر طبيعية مختلفة، تحملنا بعيدًا من خلال غنى شعر شكسبير. كما تدعونا ملاحظات مثل ملاحظة بيرديتا في “حكاية شتاء” أن نولي اهتمامًا خاصًا بالطبيعة حتى نتذوق -ليس فقط ألوانها- بل اتزانها وحيويتها الأبدية: “أزهار الدافوديل/ التي تواجه عصفور السنونو، لتعلو/ رياح مارس في أناقة وجمال”.

لعل هذه الكلمات مجرد مثال واحد من أمثلة لا حصر لها، يعتنق شكسبير من خلالها قدرة الطبيعة على التحول في كتاباته. فنزوات المواسم من الموضوعات التي يتناولها شكسبير كثيرًا، عادة باعتبارها استعارة عن كبر العمر وتغير حياة الإنسان. ويظهر هذا خاصة في القصيدة 104، عندما يتأمل الراوي، وعلى الرغم من تبدل المواسم وتقدم المحب في العمر، إلا أن ذكريات جمال الحب لا تذبل أبدًا: “وخوفًا من ذاك، لتستمع إلى هذا، مع العمر ما فات: “فقبل أن تولد كان جمال الصيف قد مات”. وقد تبدو هذه التأملات المريرة الحلوة حول مرور الزمن مناسبة تمامًا، إذ تتسرب الأيام والشهور منا، ونشعر وكأننا نغرق في وحل السكون.

وعلى الرغم من ذلك، فإن جرعة يومية من شعر شكسبير كفيلة ليس فقط بأن تحفز تأملاتنا الداخلية، وإنما أن تشجعنا أيضًا على النظر خارجنا (وخارج نوافذنا)، لنلاحظ ذلك التنوع اللانهائي الذي تقدمه لنا الحياة، حتى خلال هذا العام، حيث: “يزحف الغد والغد والغد، في خطاه البطيئة من يوم إلى يوم”.