الفن السينمائي والوجودية  .. بقلم معتز عرفان

تمثل الوجودية تياراً فلسفياً مبنياً علي فكرة حرية الإنسان التامة وتفرده. تؤكد علي حريته في التفكير دون أي قيود وتشير إلي عدم احتياجه إلي موجه أو قوة خارجية تحركه. عانت الحركة الوجودية من اضطراب واضح وتذبذب متكرر، مما أدي إلي نيل الضباب منها ليحيطها إحاطةً شبه تامة. لم يعط أحد من فلاسفتها تعريفاً واضحاً لها، ولم يصلوا معها إلي نتيجة مؤكدة، وقد انبثقت منها حركات أخري مثل العبثية لكامو. يمثل كيرجورد، ونيتشه، وسارتر، وهيدجر أعلاماً أساسيين ومحوريين بين أعلام المدرسة الوجودية الباحثين باستمرار عن معني الحياة وهدف الوجود الإنساني، بينما خرج كامو متحدثاً عن عبثية هذا الكائن المحدود.
تحدث سارتر عن "تجربة الغثيان"، والتي تعمد إلي حقيقة زوال كل شيء، وتمكن الفناء من الإنسان مما يدفعه إلي شعور أشبه بالشعور المصاحب للغثيان، وقد استخدم الوجوديون مصطلحات عديدة في حواراتهم مثل الكينونة، والسيرورة، والصيرورة، والأنطولوجيا، وغيرها. ونجحوا في تكوين لغة خاصة بهم للتسهيل من النقاش بينهم، والوصول إلي النتائج بسرعة ودقة. تنقسم الوجودية إلي فريقين أحدهما ملحد (وهو القسم الأكبر)، والآخر مؤمن، وقد نتجت الحركة خلال النصف الأول من القرن المنصرم، والذي تشبع بالحروب ونجم عنه ملايين القتلي، فحاولوا البحث عن معني الوجود الإنساني، والغاية الرئيسية من وجوده. 

هكذا نكون قد تعرفنا علي الوجودية كحركة فكرية ناشئة ومهمة، لكننا نرغب  في مناقشتها من خلال الفن السينمائي ومدي تأثر المخرجين السينمائيين بها ومحاولاتهم المتكررة لنقل الكثير من الأفكار الخاصة بها إلي الوسط السينمائي والفني. في عام 1960، قدم المخرج الفرنسي جان لوك جودار فيلمه السينمائي "اللاهث" من بطولة جان بول بلمندو، وجان سبرج، ومن كتابة فرانسوا تروفو، وقد عبر الفيلم عن النزعة الوجودية بشكل غير مباشر، وعرضها في إطار واضح أحياناً، ومبهم أحياناً أخري.يبدأ العمل السينمائي في إطار مليء بالعصابات والجرائم، لتتوالي الأحداث متخذةً إطاراً فلسفياً تارةً، ورومانسياً تارةً أخري. لا يُعد بطل الفيلم وجودياً بالضرورة أو فيلسوفاً ساعياً نحو الحقيقة لكنه وجودي بالفطرة، وفيلسوف بشكل عفوي. تصاحبه الوجودية دون إدراك منه، حيث أنك كمشاهد تشعر بكينونته الساعية نحو الحقيقة. تشعر طوال الفيلم بحالة الفقدان التي يعيشها البطل، وكأنه يبحث عن قيمته في الحياة، وسر وجوده، ومسئوليته القابعة في عنقه. ولعل هذه المواصفات تذكرنا بفيلم جودار وبلمندو الآخر، والذي يحمل عنوان "بيرو المجنون". صدر هذا الفيلم في عام 1965 بمشاركة الجميلة آنا كارينا مع بلمندو في دور بيرو التائه والباحث عن الهدف من وجوده علي قيد الحياة. هنا نجد جودار قادراً علي خلق بيئة سينمائية مميزة قادرة علي لفت الأنظار وجذب الانتباه، وبالطبع يٌعد هذا العمل الفني علامة فارقة في تاريخ السينما الفرنسية، حيث يروي الفيلم قصة بيرو الذي يشعر بالضيق تجاه مجتمعه المعقد والممل، ويقرر فجأةً أن يتخلي عن كل شيء ويغادر باريس متجهاً إلي إحدي الدول القابعة علي سواحل البحر المتوسط مع ماريان "كارينا"؛ عشيقته السابقة والمٌطاردة من قبل بعض القتلة المأجورين. إنها قصة بسيطة من الخارج، لكن في العمق تكمن فلسفة وجودية عظيمة يدهشنا بها جودار، حيث يطرح الفيلم الكثير من الأسئلة الفلسفية المدهشة، ويتوغل في الحديث عن معني الحياة. إن منبع جماله يكمن في المحادثات الممتعة بين ماريان وبيرو، تلك المحادثات العميقة التي تتخللها الفكاهة، وفِي نفس الوقت تحيط بها أحداث بسيطة وعبثية. ولا يمكننا أن ننسي فيلم جودار مع كارينا الصادر في عام 1962، والذي يحمل عنوان "حياتي لأعيشها"، وقد حقق نجاحا كبيرا وقتها.

يُعد هذا الفيلم واحداً من أهم أفلام جودار، ويمثل ركناً أساسياً في مسيرة آنا كارينا. تصل مدته إلي ساعة وعشرين دقيقةً، وقد تُعد قصيرة نسبياً لكنها وافية ومناسبة للفكرة والمضمون. يتكون من ١٢ مقطع، بينها عدة مقاطع من الممكن تصنيفها ضمن إطار "التابلو"، حيث تتضمن تجسيد صامت أو ثابت من قبل الممثلين. كما أننا خلال المشاهدة، نقابل مقاطعاً متصلةً وأخري غير متصلة، يتم توضيحها من خلال مقدمة كلامية سريعة. يقدم جودار إخراجا سريعاً ومحكماً، ويعرض فكرته بشكل حرفي رائع دون إطالة أو إخلال بالمضمون، حيث يعرض حبكته سريعاً بشكل شيق ومثير مما يجنب المشاهد الملل، ويساعده علي الاندماج مع تطور شخصية نانا، والتي تؤدي دورها الجميلة آنا كارينا.يحكي الفيلم قصة امرأة باريسية "نانا"، والتغيرات الطارئة في حياتها، والتي تدفعها إلي العمل في بيوت البغاء. يتناول القصة بشكل بارع ومحكم واصفاً التطور المصاحب لشخصية نانا، والبيئة الجديدة التي تنخرط فيها. كالعادة، يمنحنا جودار بعضا من فلسفته الوجودية الأنيقة، مدرجاً إياها في واحد من المشاهد التي تجمع نانا "كارينا" برجل عجوز قاطعته حينما كان منغمساً في القراءة بإحدي البارات. تخبره عن أهمية الحوارات بين البشر، هل الكلام مهم؟ هل يحتاج الإنسان للتعبير عن نفسه دائماً؟ ما الفائدة من ذلك؟ .. يخبرها الرجل عن أهمية الكلام وأنه ضروري للتعبير وملء الفراغ، ويحدثها عن بلاتو "تلميذ سقراط ومعلم أرسطو" وعن تداول كلماته بين الناس بالرغم من عدم معرفتنا الدقيقة بلغته وبالرغم من حقيقة تلاشيه منذ قرون. يخبرها عن أهمية الكلمة وأهمية أن يعبر الإنسان عن نفسه ليفهم البشر بعضهم البعض، حتي لو كان هذا الاتصال مجهداً ومملاً في كثير من الأحيان. فالكلام هام دون شك حتي ولو كان من المعروف، أنه كلما زاد عدد الكلمات قل معناها وفقدت أثرها، كما يخبرها بالحاجة الملحة للكلام واستحالة الحياة بدونه. تنخرط نانا في حياة الدعارة البغيضة منغمسةً في بيئة من البرود واللامبالاة، وحينها تتعقد الأحداث وتصل إلي الذروة، لتُقتل الفتاة "نانا" في النهاية.

في عام 1979, صدر الفيلم الأمريكي "القيامة الآن" لفرانسيس فورد كوبولا ومارلون براندو، ويُصنف ضمن الأفلام الوجودية لأنه يناقش مصير الإنسان ورحلته السوداوية للوصول إلي الحقيقة. كما يناقش الوجود الإنساني، وتأثره بالحرب، والصراع الدائم بين أجناس البشر المختلفة. يركز الفيلم علي حرب فيتنام والآثار السلبية الناجمة عنها، ويعرض الأزمة الوجودية المتعلقة بذلك، ولا يتوقف عند هذه النقطة فحسب بل يشمل الكثير من الموضوعات الشائكة الأخرى. وفي نفس العام، صدر الفيلم الروسي "ستوكر" لتاركوفسكي ليترك تأثيراً سينمائياً كبيراً علي المشاهدين حول العالم، حيث يناقش العمل الرغبات الوجودية والمعني الذي تقوم عليه الحياة. يهتم بعرض الكثير من الأسئلة مثل؛ ما الذي يجعل الحياة هامةً؟ ما هي الحقيقة؟ وما حقيقة اختياراتنا؟ وما حجم إدراكنا؟ وغيرها من الأسئلة الوجودية التي يطرحها بسلاسة وانسيابية من خلال أبطال القصة الثلاثة. ولا يمكننا أن ننسي الفيلم السويدي "التوت البري" لإنجمار برجمان، والذي يهتم بعرض الذكريات الخاصة برجل عجوز قد نال الشيب منه، ليأخذنا الفيلم في تسلسل سردي ممتاز وعظيم تحت إشراف المخضرم برجمان. أيضاً من الأفلام التي من الممكن أن ندرجها ضمن التيار الوجودي فيلم "الهروب" الصادر في عام 2018 من بطولة جيما أرترتون ودومينيك كوبر، والذي يحكي قصة امرأة متزوجة وسعيها نحو البحث عن معني الحياة والهدف من وجودها بعد شعورها مؤخراً بعبثية حياتها وعدم جدواها. ولا يمكننا أن ننسي فيلم "البروفيسور" الصادر في عام 2018 من بطولة جوني ديب وداني هيستون، حيث يهتم بعرض الكثير من الأسئلة الوجودية التي تطرحها الشخصية الرئيسية "ريتشارد" بصورة مستمرة علي مدار العمل السينمائي.

Moataz Erfan articles