قصيدة “تنسى كأنك لم تكن” وإشكالية الإبداع

ويرجع ذلك أولًا إلى استخدام درويش لغة بسيطة سهلة في مفرداتها مقارنة بباقي العشراء، وثانيًا الاهتمام بالمعنى على حساب قوانين الشعر الكلاسيكية، فنجده مثلًا لا يهتم بقواعد الوزن والقافية بشكل كامل، ولكنه مع ذلك حريص على تكثيف كم كبير من المشاعر النفسية في بيت شعري أو اثنين.

قصيدة تنسى كأنك لم تكن بين إشكالية الإبداع والاغتراب النفسي

يعرف الاغتراب النفسي على أنه: “مجموعة من الأعراض أو الأفكار التي يبدو معها المريض وكأنه في علاقة غريبة مع المجتمع الذي يعيش فيه، حيث تزداد الهوة بين الفرد وبيئته ومجتمعه”.

حاولت كثير من مدارس علم النفس تفسير العوامل التي تؤدي إلى شعور الفرد بالاغتراب وبالأخص إنسان العصر الحديث، ومن بين تلك المدارس يظهر تفسير المدرسة الإنسانية مقنع ومنطقي؛ وملخص رأيهم أن صورة الفرد عن نفسه هي نتاج جامع بين صورة الذات والصورة المجتمعية له. وبالتالي يتم تنظيم -بناءً على تلك الصورة- المشاعر والمعتقدات التي بدورها تجيب على أسئلة من نوعية: (من أكون؟ وماذا أريد من الحياة؟ وكيف عليّ أن أتصرف؟).

وسنقوم بتحليل قصيدة الشاعر محمود درويش تنسى كأنك لم تكن وفقًا لهذه المراحل الثلاثة لعملية الاغتراب النفسي.

أولًا – مرحلة التهيؤ للاغتراب: ستنسى كما نسي من سبقوك

“تنسى، كأنك لم تكن

تنسى كمصرع طائرٍ

ككنيسةٍ مهجورةٍ تنسى،

كحب عابرٍ

وكوردةٍ في الليل… تنسى”.

قصيدة تنسى كأنك لم تكن هي جزء من ديوان “لا تعتذر عما فعلت” الصادر عام 2003، وتعتبر من أكثر قصائد درويش شهرة حتى بين شباب الجيل الحالي، وبالأخص مطلع القصيدة، الذي يتم حتى الآن تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي.

تبدأ القصيدة بالأبيات الأولى التي يعبر من خلالها محمود درويش عن شدة صعوبة فكرة الموت، ليصور بأنك ستكون طي النسيان كأشياء كثيرة حدثت وتحدث كل يوم دون أن يكترث لها الكثيرون، فموتك وانتهاؤك سيكونان كموت طائر أو كنيسة مهجورة نائية لا يلتفت لها أحد.

أما في المقطع الثاني، والذي يقول فيه:

“أنا للطريق… هناك من سبقت خطاه خطاي

من أملى رؤاه على رؤاي. هناك من

نثر الكلام على سجيته ليدخل في الحكاية

أو يضيء لمن سيأتي بعده

أثرًا غنائيًا… وحدسًا”.

يبدأ الشاعر محمود درويش (13 مارس 1941 – 9 أغسطس 2008) في وصف وتوضيح معاناة المبدعين، فمن المعروف أن شعر درويش مر بثلاثة مراحل، وهما: (المرحلة المحلية – المرحلة العربية – المرحلة العالمية). في المرحلة الأولى ظهرت مواضيعه متأثرة بنكبة الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين، وأشهر قصائده خلال هذه المرحلة هي “سجل، أنا عربي”.

أما عن المرحلة العربية فظهر بها اهتمامه بالمشاكل العربية إثر انتقاله للعيش في لبنان، وتنتمي قصيدة “تنسى، كأنك لم تكن” للمرحلة الثالثة، وهي المرحلة العالمية التي كان يهتم بها بمواضيع تشغل العالم كله وليس المواطن العربي فقط مثل مشكلة الإبداع.

بالعودة إلى قصيدة “تنسى، كأنك لم تَكن” نجده يصف العملية الإبداعية الفنية وكأنها طريق هناك من مشى به قبله وهناك من سيتبعه أيضًا، أو كورقة تمت الكتابة عليها بالفعل وليس هناك من جديد لتقدمه. وهي مشكلة يعاني منها المبدعون، وهي الإحساس الدائم بأنه مكرر، كل الكلام قد كتب وقيل بالفعل، كل المشاهد قد رسمت.

“تنسى، كأنك لم تكن

شخصًا، ولا نصًا… وتنسى”.

ينهي الشاعر محمود درويش المرحلة الأولى بالتأكيد للمرة الثانية على النسيان، يوحى هذا التكرار بتدفق وكثرة المشاعر السلبية المقترنة بفكرة النسيان. فالغرض الأول والأهم لأي إنسان على وجه البسيطة هو ترك علامة أكثر ديمومة تخلد ذكراه بعد رحيله، فعندما يواجه الإنسان فكرة صادمة ملخصها: إنه سينسى سواء على المستوى الشخصي “شخصًا” أو المستوى الأدبي “نصًا”، هنا تحدث الصدمة وسوء التكيف. يظهر حتى الآن في القصيدة فشل في إيجاد معنى، وتشييء للذات بالإضافة إلى شعور عام باليأس والعجز.

ثانيًا – مرحلة الرفض والنفور، وتعلق الشاعر محمود درويش بأي أمل

“أمشي على هدي البصيرة، ربما

أُعطي الحكاية سيرةً شخصيةً. فالمفردات

تسوسني وأسوسها. أنا شكلها

وهي التجلي الحر”.

يبدأ الشاعر محمود درويش في المقطع الثالث من قصيدة تنسى كأنك لم تكن بوصف كلماته الشعرية وقصائده، وكيف تمكنه من التعبير والتحدث عنه وذاته وسيرته، وكما لو كانت كلماته هي شكل وصورة له. وهي الشكل الأكثر حرية الذي من خلاله يمكن التعبير عن نفسه، فهو لا يجد الرسم أو الموسيقى ولا حتى الكلام كقصاص يروي من خلال القصص والروايات، فقط الشعر هو طريقته في الظهور.

“لكن قيل ما سأقول.

يسبقني غد ماضٍ. أنا ملك الصدى.

لا عـرش لي إلا الهوامش. و الطريق

هو الطريقة. ربما نسي الأوائل وصف

شيء ما، أُحرك فيه ذاكرةً وحـسًّا”.

ينحدر مرة أخرى الشاعر محمود درويش بعد حالة من الحب والتدفق مع الشعر إلى الحقيقة المرة، فهو: ملك الصدى والفراغ، وعرش تلك المملكة من الهوامش الفرعية لإشعاره. يؤكد مرة أخرى على استحالة إيجاد مواضيع جديدة فكل ما يمكن أن يقال قد قيل، وكل الطرق تم المشي بها بالفعل، وكل ما يمكن تقديمه جديد هو الطريقة التي تقول بها. ليكون الأمل الأخير لك كمبدع هو وجود هفوة أو سقطة لم يتناولها الأقدمون، فتقوم أنت بدب الروح بها، وهو الأمر المحال، فبالتأكيد كل الفضائل والرذائل تم تناولها من قبل.

“تنسى، كأنك لم تكن

خبرًا، ولا أثرًا… وتنسى”

أما عن هذا المقطع من قصيدة تنسى كأنك لم تكن فهو الأكثر ذكاءً وإبداعًا لدرويش في قصيدة “تنسى، كأنك لم تكن” كلها، فهنا يحاول من الضدين أن يبث الأمل واليأس معًا. فبالتأكيد كما أوضحنا ليس هناك موضوعًا لم يتم تناوله من الأسبقين حتى الآن، ومع ذلك يعول درويش على ضعف ذاكرة المتلقي؛ لعله يتمكن من الإبداع وأن يسطر ولو سطر واحد في الورقة التي كتب عليها الأقدمون.

ويمكن تصنيف الشاعر محمود درويش في هذا الجزء في المرحلة الثانية من الاغتراب: وهي مرحلة الرفض والنفور، ومع ذلك محاولة التعلق بأي أمل في الإصلاح.

ثالثًا – مرحلة الشعور الفعلي بالاغتراب، درويش حر حينما ينسى

“أنا للطـريق… هناك من تمشي خطـاه

على خطاي، ومن سيتبعنـي إلى رؤيـاي.

من سيقول شعرًا في مديح حدائـق المنفـى،

أمام البيـت، حرًا من عبادة أمـس،

حرًا من كناياتي ومن لغتي، فأشهد

أنني حي

وحـر

حين أنسـى!”

يكسر درويش كل أفق التوقع للمتلقي، فبعد أن حزن ويأس وتشاءم درويش بشأن العملية الإبداعية والنسيان بشكل عام، يوضح أنه مع ذلك هو الطريق وسيكون هناك من يمشي على خطاه ويكون هو المعلم له. ثم يتحدث بلسان مبدعي المستقبل الذين سيكونوا قادرين على كسر عبوديتهم لقوانين وضعت سلفًا للإبداع، ويتمثل هذا الكسر في مديح حدائق المنفى مثلًا التي من المعروف عن المنفى بعيدًا عن الوطن في الشعر أنه موضوع حزين لا يمكن مدح جزء منه.

وأخيرًا، يضع الشاعر محمود درويش في قصيدة تنسى كأنك لم تكن واحدة من أصعب المعضلات الفكرية في تساؤل: كيف يكون الإنسان حر حينما ينسى؟! ويمكن إرجاع ذلك إلى أن النسيان يعني الخروج من الدائرة الضاغطة التي يتعرض لها المبدع، من قوانين تحكم إبداعه وعلاقته بالمتلقي، وبمجرد كسر تلك الحلقة -عن طريق موته ونسيانه- يصبح حرًا، ويمكن تصنيف هذه الحالة في العرض الثاني من المرحلة الثالثة السابق ذكرها بالتمرد.