يعتبر كل من الفلسفة وعلم النفس هما العلوم الأساسية التي حاولت الغوص في أعماق الإنسان وأسراره؛ لذا فعند اعتمادهما للتطرق لأحدى النصوص المسرحية، يعتبر ذلك بمثابة منهج تحليلي مزدوج، نحاول فيه أن نفصح عن مكنونات الشخصيات التي رسمها الكاتب بأدوات علمية ومرجعية، كما سنفعل في هذا المقال مع نص مسرحية Tartuffe – طرطوف للكاتب المسرحي الفرنسي Molière – موليير (1622- 1673)، الذي يُعتبر واحدًا من أهم الكُتاب المسرحيين الذين تطرقوا في نصوصهم نحو قراءة النفس البشرية في صور كوميدية.
أسباب منع مسرحية طرطوف للكاتب موليير
يُقال بين الأوساط المسرحية وسطور الكتب إن موليير اضطر لإعادة كتابة نص مسرحية طرطوف 3 مرات (أو “ترتيف” وفقًا للترجمات المتعددة للاسم)، ففي نسخته الأولى والثانية لقى من قِبل الجمعيات الدينية وأهل البلاط رفض بالإجماع، وعندما عُرضت في مسرح القصر الملكي في أغسطس 1667، منعوا عرض المسرحية وحظروا نشرها، وظل النص المسرحي تحت التعديل حتى ظهر في نسخته الثالثة والأخيرة، ونُشرت بالفرنسية في عام 1669، وهي نفسها النسخة التي وصلت إلينا فيما بعد كـ نص مسرحي مكون من 5 فصول.
وكانت أسباب المنع تكمن جميعها في ثيمة النص التي تدور في أساسها حول شخصية “طرطوف” ذلك الشخص المُحتال الذي يختبئ بكل ما يحمله من سوء ونفاق تحت مظلة الدين وما يحفظه من شعارات واهية ينخدع فيها البعض أحيانًا، ومن بين من وقعوا في شباكه هو “أوركون” رب أسرة كبيرة تتكون من أولاد وزوجة وأم وخادمة، ويظل طرطوف مُهيمن على أوركون بشعاراته الرنانة حتى تكشف له الزوجة (ألمير) الحقيقة وينكشف طرطوف على حقيقته أمام الجميع ويلقى جزاءه بالسجن.
قُدم النص في شكل كوميدي ساخر، وهذا هو اللون الذي تميز فيه موليير ككاتب مسرحي يسخر بكل أدواته الكتابية لإظهار غرابة النمط الذي يريد بلورته، فالاهتمام برسم الشخصيات عند موليير هو الهدف الأول بينما أحداث مسرحياته فدائمًا ما تكون بسيطة تعتمد في أساسها على رسم الشخصيات وما تحمله من طبائع مغايرة تحدث مفارقة تُحقق الكوميديا المطلوبة، بل وفي بعض الأحيان تتشابه أحداث مسرحياته لتأخذ ثيمات مشتركة.
ما بين نص مسرحية طرطوف ونصوص موليير الأخرى
بالنظر في أشهر نصوصه المسرحية نجد أن بين نص (البخيل) والذي عُرض كمسرحية لأول مرة في سبتمبر 1668 في مسرح القصر الملكي بباريس، ونص (مريض الوهم) والذي تم إنتاجه في 1673 ونُشر عام 1674، ونص (طرطوف) الذي نحن بصدده، خطوط درامية متشابهة.
حيث المرض والهوس الذي يتراوح بين هاجس الخوف من الموت في مريض الوهم، والبُخل وحب المال في البخيل، والسادية والهيمنة على الأشخاص في طرطوف، وكذلك الخط الخاص بالحب وهو في الغالب يكون ملاحقًا لشخصية الابنة في نصوصه، ويصل التشابه في نقل الخط الدرامي كما هو في كثير من التفاصيل بين نص البخيل ونص طرطوف في قصة حب الابنة (إليز عند البخيل)، (مريان عند طرطوف) والحبيب هو فالير لكل منهما بنفس الاسم في كل من النصين.
كذلك الخط الدرامي الخاص بالرجل الأرمل والمرأة الثانية في حياته وتتبع أثر وجودها على الشخصيات، فنجد (بيلين في مريض الوهم) هي زوجة أركان الثانية وتريد إرسال بناته إلى الدير حتى لا يحصلن على الميراث، و(ماريان في البخيل) التي يقع في حبها هارباغون وابنه في نفس الوقت، و(ألمير في طرطوف) وهي الزوجة الثانية أيضًا لأوركون بينما تظهر كزوجة مخلصة له ولأبنائه، وكذلك لغز الصندوق المشترك بين (البخيل وطرطوف) والذي يحوي السر عند كل منهما.
وبالعودة إلى معلومة رفض الجمعيات الدينية للنص في وقت كتابته، يتضح إنه يجب التبحر فيما هو أبعد مما تم الذهاب إليه حينها حول شخصية رجل الدين المُتملق، والنبش بين ثنايا النص لإدراك الأبعاد التي أراد موليير التعبير عنها في سطور مُستترة لا تقل أهمية عن الغلاف الخارجي للنص وفكرة تستر البعض في عباءة الدين، حيث اسم النص ذاته الذي يؤكد على أن طرطوف هو محور الأحداث.
بينما نجد أن طرطوف لم يظهر في المسرحية كحضورًا ماديًا إلا في بداية المشهد الثاني من الفصل الثالث، ومن أول ظهور له تتضح حقيقته كاملة في مشهد “تحرشه بزوجة صديقه”، ليكون كل ما سبقه من فصول تعريفًا بالشخصية على لسان آخرين، لذا فالتطرق في التحليل في المقدمة يجب أن يتوجه نحو من أدرك حقيقته، ومن لم يدركها وأسباب ذلك عند كل منهما، فالعائلة بأجمعها يتضح بين جميع جملهم الحوارية أنهم لمسوا في ذلك الطرطوف شخص منافق مُزيف من البداية وحتى النهاية، ولكن يبقى الأب (أوركون) ووالدته (السيدة برنال) هما بمفردهما من يجدوا في طرطوف العفة والشرف والقناعة.
أوركون يقع في مواجهة مثلث غير متساوي الأضلاع
أوركون الأب يقف بين ثلاثة جبهات الجبهة الأولى هي جبهة الأم (السيدة برنال)، وقصد موليير بالطبع أن تكون الأم لا الأخت أو الابنة أو غيرها لتكون سيطرتها على تفكير ابنها مُبررة فأبعادها مُنمطة للغاية، تبدو شخصية جاهلة لا تريد الإقلاع عن وجهات نظرها غير المبنية على سند قاطع، ولا تريد السمع من غيرها، ويظهر ذلك في المشهد الافتتاحي الأول من المسرحية فنجد أن جميع جملها الحوارية لا تسير وفقًا لقواعد الحوار المتصاعدة، فهي ثابتة في اتجاه وجميع من حولها يحاولون إقناعها بطرق عدة بين الحديث الجد والسخرية من آرائها ولكن دون جدوى.
“السيدة برنال: إن ولدي لم يكن عاقلًا باستضافة هذا الشخص الورع في بيته، كأن السماء أرسلته إليه بغية إصلاح حال كل من ضل سواء السبيل، وأن خلاصكم من الهلاك المحتم يقتضي الإصغاء إلى نصح لضمان خیر کم وسلامكم، وهذه الزيارات والحفلات والأحاديث هي كلها من وحي إبليس” ص 198.
والضلع الثاني أو الجبهة الثانية التي يقع فيها أوركون هي جبهة العائلة التي تتكاتف جميعها من أجل إظهار حقيقة ذلك الطرطوف له ولكنه يقابلهم جميعًا بالرفض ولا تختلف صياغة جمله في الحوار عن جمل والدته وتدور جميعها في فلك التمسك بالرأي من أجل التمسك، أما عن الجبهة الثالثة وهي محور الحدث والأشد خطرًا وهي التي تسببت في تنميط الجمل الحوارية بهذا الشكل عند أوركون ووالدته هو وجود شخصية طرطوف، ويظهر ذلك في تكراره لجملة “مسكين هذا الرجل مسكين” في المشهد الرابع من الفصل الأول، والتي كانت رده الثابت عن أي جملة تقال عن طرطوف وأفعاله.
“أوركون: هو رجل يتقن جيدًا علومه، ويتذوق السلام بعمق، وينظر إلى الناس كأنهم جهلاء. نعم، تراني أتحول فورًا إلى شخص آخر عندما أتكلم عنه. لأنه يحول دون عطفي على أي مخلوق سواه، ويقصيني عن كل صداقة، ويجعلني أنظر إلى أخي وأولادي وأمي وزوجتي بلا مبالاة، وألا أكترث لهم وأهتم بمصيرهم”، ص 202.
طرطوف وأوركون كما يراهما علم النفس