رواية “ورثة آل الشيخ”

أسطورة تجمع خيوط الحكاية

كان يا ما كان في قديم الزمان -ليس قديمُه جدًّا- رأى الشيخ الأزهريّ وهو في جناح زوجته التركية رُؤية تخبره بأنّ بيت القريّة البعيد يحوي كنزًا يحرسه قِردٌ أجرب، ويكون هذا الكنز من نصيب شاب يُدعى محمد من نسلك، هذا المحمد يكون ترتيبه السابع في تعداد الأحفاد، وعلى إثر هذه الرؤية صارت كل ذكور العائلة تحمل اسم (محمد)، ومن هنا بدأت الحكاية بعدما تناقلتها زوجات الشيخ وأَسرَّت كل منها لأبنائها وكلٌّ أَسرَّ بها لأولاده وأحفاده حتى صار لدينا عدد لا حصر له من المحمدات.
تلك الأسطورة التي لا يعلم أحد مدى مصداقيتها جمعت شمل الأسرة لعقود، كانت حلقة الوصل بينهم، وفاتحة الكلام حينما ينفد الحديث، وحينما تختلف المآكل والمشارب تظل هذه الأسطورة خيطًا رفيعًا يربطهم. تُرى ماذا دار بخلد الجد الأكبر حينما قصَّ هذه الرؤيا أو الحلم؟ هل كان يدري أنّها ستظل حاضرة حتى بعد رحيله بعقود؟ هل اخترعها، أم أنّها حقيقية؟ ربما أراد أن يُحافظ على بيت العائلة ويحميه من البيع ومن تنازع الورثة، لا أحد يدري يقينًا من أبطال القصة الحقيقين ماذا أُريد بهم؛ لكنّ المؤكد أنهم ساهموا في تقديس هذه الأسطورة وتصديقها على الرغم من تقدُّم زمانهم عن زمان جدِّهم، وعلى الرغم من المناصب العلمية والعملية المرموقة التي وصلوا لها. كانت هذه الأسطورة هي آخر ما تبقى لابن العم المُهاجِر في وطنه، وآخر كذبة يتكئ عليها ليصدّق أن له شيء هنا، له عائلة، وجذور تغذِّيه حتى ولو بأسطورة.

 أيا ابن العم، لماذا يستبد بك الشوق كلّما رحلت؟ وما الذي يُمسك ورقتك الصغيرة في شجرة العائلة الشائخة؟ ما سر تمسكك ببيت ما عُدت تعرفه؟ ما عُدت تذبح في فنائه، ولا تشرب من ماء طرمبته، هل ثمة في العودة ما يستحق؟.

على الجانب الآخر من الصراع بين الجذور والفروع المتناثرة يقف أحد الأحفاد “أحمد” والذي لم يحظَ مثلهم جميعًا ببركة التسمية باسم فاتح الكنز وقاهر القرد، لسوء حظه لم يكن أصلًا جزءًا من الأسطورة؛ لكنه ظل مُنشغلًا بها، محاولًا تجميع خيوطها المتناثرة هنا وهناك، في الحاضر، والماضي، والمستقبل. يبدو الأمر لأحمد كقصّة مشوقة تستحق الكتابة في أولى محاولاته الروائيّة وسط كساد الأفكار، وكساد سوق العقارات الذي يفتح بيته. هي فكرة جيدة على كلّ حال يُطارد بها أشباح الكاتب بداخله، ورواسب العائلة الباقية في ذاكرته، وخيطٌ أخيرٌ يربطه بوطنٍ ما عاد يشعر فيه بذاته ويفكّر بجد في هجره كما فعل ابن عمه.

الأجيال هي الأسطورة

لا توجد ملامح واضحة للبيت، ليس بيتًا ريفيًا وبالطبع ليس بيتًا مُتَمدِّنًا بالكامل، ليس برفاهية البيوت الحديثة ولا بأُلفة البيوت القديمة؛ لكنه يجمع العائلة، فيه يجتمع جميع أفراد العائلة بكبيرهم وصغيرهم، بجميع المحمدات، لا يوجد أحد لم تطأ أقدامه أرض هذا البيت. كانت العمّة نعمات هي عمود الأساس لهذا البيت ولهذه القرية على الرغم من أنها امرأة ضعيفة، وحيدة، بلا زوج، وبلا أب، وبلا أبناء، استطاعت أن تثبِّت جذور العائلة في هذه البلدة، استطاعت أن تجعل من أرض البلدة النائية وطنًا لهم جميعًا يسعهم حينما يضيق بهم الحال، وكانت أولهم حينما ضاق بها بيت أبيها.

في البلدة يتجدّد الرجاء، تنحلُّ القيود وينشرح الصدر، تنبُت الأجنحة، تتشمم بكارة الحياة وتُحلِّق فوق مروج خضراء هربًا من أشجان العالم، من سياط زواجها الفاشل ومهانة ضيق الحال وقت الحرب. ويوم أعدَّت حقائب السفر تعجّبت لكون حقيبة متوسطة الحجم قد استوعبت ملابسها وحاجياتها؛ كأنّها لم تعش ثلاثين عامًا تحت سقف هذا البيت، لم تكن عروسًا ذات يوم تزف بالشيء والشويات.

قطعة الأرض النائية التي ورثتها نعمات عن أبيها كانت لها طوق نجاة؛ لكنّها أرضٌ زراعيةُ نائيةُ، كيف تعتاد حياة الريف وهي ابنة المدن؟ وأنّى لها أن تصبر على شظف العيش في الريف؟ وكيف تدبِّر أمر الأرض؟ لكنّها فعلتها، لقد كانت امرأة قوية لدرجة أصبحت هي وبيتها حصن أمان لكل العائلة كبيرهم وصغيرهم، رجالهم قبل نسائهم.
أمّا شخصية محمد بن فاضل فهي مثال للقوة في الحب والكبرياء، وللمروءة والنّخوة، على الرغم من فقدان محمد لإحدى عينيه في سبيل إنقاذ سمعة وشرف ابنة عمه التي أحب، وعلى الرغم من خذلانها المتكرر له وزواجها بغيره، كان أول كتف تستند عليه حين انهارت في جنازة زوجها.
وبالنسبة لأحمد الحفيد الذي يلملم خيوط الحكاية من هنا وهناك والذي لا يملك أسمًا كأسمائهم واستُبعِد من سباق الفوز بالكنز وقهر القرد الأجرب، كان مزيجًا متناثرًا من قصص الأسلاف وتفاصيل شخصياتهم، ينظر للماضي بإكبار وللحاضر بحسرة تُلح عليه بالرحيل. من كان تاريخه مجيدًا لا يُرضيه حاضر ضئيل، حينها تكون العودة للماضي حياة جديرة بالحياة أكثر من حياته التي يحياها. بين الضجر من المُقام، والفرح بكل تفصيلة جديدة يكتشفها عن عائلته تندثر وتختفي أسطورة البيت من مخيلته ولا تصير هي الدافع الذي يحركه؛ إذ يكتشف أنّ الأسطورة الحقيقة هي أجيال هذه العائلة المتعاقبة، ليسوا لأنهم أفضل البشر ولا لأنهم بلا أخطاء؛ بل لأنهم ينتمون له يرى فيهم صورته بمواطن جمالها ومواطن قبحها.
عند ولادته رأت له جدته رؤيا تخبرها أن هذا الفتى “كنز” وهكذا احتفظت به والدته ورحمته من خيبة الإجهاض؛ ربما كان أحمد هو “الكنز” لأنه خلَّد أسطورة العائلة وربط خيوطها ببعض، وأحيا من مات من أبطالها ولو على الورق.