انتحار كاتب

كان “أفلاطون” يرى أن الانتحار ليس جريمة إذا اضطر الإنسان إلى ذلك وحل به يأس ولم يبقَ له أي خيار غيره، إلا أنه ارتأى أن يتم تجريم الانتحار إذا حدث بسبب جبن فاعله على مواجهة الحياة. بينما يقول الأديب التشيكي “كافكا” إن الانتحار هو الحل الوحيد.

تنتشر بصورة لا تنقطع أبدًا الأخبار عن أشخاص يقدمون على الانتحار بكل سهولة، كأن الحياة لا تعني لهم أي شيء حقيقي. لا يملك أحد تفسير يقيني لإقدام الأشخاص على الانتحار، فكل شخص يقدم على إنهاء حياته بسبب خاص جدًا، يرتبط ارتباطًا أصيلًا بذاته وحياته هو فقط، كارتباطه بحمضه النووي، إلا أننا نعرف الطرق التي يسلكونها في سبيل إنهاء حياتهم، لأن ذلك هو آخر فعل اختياري لهم.

الانتحار والكتاب: عندما لا تنقذنا الكتابة

الانتحار لا يعد كونه مأساةً فقط، وإنما لغزًا يستحق المتابعة والتأمل أيضًا.

وإذا كان إنهاء الإنسان لحياته هو حدث مأساوي، ذو هزة عنيفة على مسامع معارفه، خاصة مع الانتشار الفيروسي للأخبار في هذه الأيام، إلا أن انتحار المبدعين والكتاب لا يعد كونه مأساة فقط، وإنما لغزًا يستحق المتابعة والتأمل أيضًا، فإحدى أدوار المبدع أو الكاتب الأصيلة هي: إنتاج فن يتشابك مع الحياة ويواجهها ويحاول تفسيرها، يما يتيح للجماهير بعضًا من الفهم والاستئناس، اللذين يدفعان بتلك الجماهير إلى مواصلة الحياة ومجابهتها.

كتاب مصريين أنهوا حياتهم عن طريق الانتحار

فنانون ومشاهير كثر أنهوا حياتهم عن طريق الانتحار، مثل: (هيث ليدجر، روبن ويليامز، داليدا.. وغيرهم). من الكتاب أيضًا والروائيين من انتحر بطرق شديدة القسوة، بعدما قدموا للعالم قصصًا وروايات غاية في العظمة، مثل: (فيرجينيا وولف، إرنست همنغواي، سيلفيا بلاث، والنمساوي ستيفين زفايغ).

بين الكتاب المصريين لم تشع فكرة الانتحار كما تكررت بين الكتاب العالميين، لكن ما تزال هناك حالات تستحق التوقف والتأمل أيضًا.

وجيه غالي.. ما يفعله فينا الخذلان المريع

يوم الخامس من يناير من عام 1969، كان يومًا لندنيًا باردًا، عندما عادت الكاتبة الإنجليزية “ديانا آتهيل” إلى شقتها، وجدت ورقة معلقة على الباب مكتوب عليها:

“ديانا لا تدخلي. اتصلي بالشرطة فورًا”.

لم تنفذ “ديانا” تحذير الورقة، وإنما اندفعت بالرعب في قلبها لتجد حبيبها المصري وجيه غالي، شاحب الوجه، يتمدد على السرير، وقد لفظ أنفاسه جراء جرعة زائدة من الحبوب المنومة. قبل أن يقذف “وجيه غالي” بجرعة الحبوب في جوفه، كتب على ورقة علقها خلف رأسه:

“أظن أن الانتحار هو الشيء الوحيد الأصيل الذي فعلته في حياتي“.

انحدر “وجيه غالي” من عائلة أرستقراطية كانت تتصف بالثراء، إلا أن ثورة يوليو سلبت من عائلته معظم تلك الثورة، مما دفع به إلى الهجرة إلى أوروبا، وإن كانت لا توجد معلومات أكيدة حول الجزء الذي قضاه في مصر من حياته، غير أنه ولد في عشرينات القرن العشرين، ثم هاجر إلى أوروبا في نهاية الخمسينات على أغلب التقديرات، ليحيا هناك حياة متقلبة في عدة مدن أوروبية، صاحب هذا التقلب تخبطًا واضحًا في علاقاته النسائية، بل إن توتر تلك العلاقات أو سعادتها هو ما كان يضفي اللون المميز على حياة “وجيه”، بالفرح أو الاكتئاب.

يمكن القول أن “وجيه غالي” كان سريع التعلق، سريع النفور، وفورات المشاعر تلك هي ما كانت تدفع به إلى حالات من الاكتئاب الحاد، التي تعد معها الحياة شيئًا لا يمكن احتماله. يقول “وجيه غالي” عن نفسه في يومياته بتاريخ 30 مايو 1964:

“لا أستطيع الحياة بدون حب، وحين أحب أكون في الحب تمامًا وكليًا إلى درجة أن أصبح مضجرًا. لا أعرف ما أفعل.”

ويقول أيضًا بتاريخ 1 يونيو 1964:

“أقع في الحب بكل يسر، غريب جدًا. أي واحدة مقبولة جسديًا بالنسبة لي هي مرشحة لحبي […[ حيث تبدو تلك الرغبة العارمة في الحب، هي رغبة للحب ذاته، غير موجهة إلى شخص بعينه، سرعان ما يمكن ملؤها والوصول بها إلى حالة الضجر والإرباك.”

تعرّف “وجيه غالي” على الكاتبة الإنجليزية “ديانا آتهيل” في مدينة بروج البلجيكية، ثم انتقل إلى العيش معها في شقتها في لندن، حيث كانت تساعده ماديًا، وتحاول الحصول له على عمل يعيله، وبرغم أنها وصفته بشيء من الانتهازية في كلامها عنه في كتابها “بعد الجنازة”، إلا أن علاقتها كانت شبه المغلفة بالأمومة نوعًا ما، فهو يرسل لها الخطابات، أو يكتب عنها في يومياته، يحكي لها عن اكتئابه من علاقة ما، والصعوبات التي تواجهه مع الناشرين، وهي ترد عليه باهتمام منقطع النظير، تبعث له بالهدايا، ولا تتوقف عن دعمه ماديًا أو شعوريًا، حتى أنهي حياته على سريرها.

بيرة في نادي البلياردو

لم ينشر “وجيه غالي” سوى رواية وحيدة هي “بيرة في نادي البلياردو”، والتي كتبت في أصلها باللغة الإنجليزية ثم ترجمت فيما بعد. جسد “وجيه غالي” في روايته معاناة رام، بطله المثقف اليساري، الذي ينحدر من عائلة فقيرة. يتخبط رام في أزمات وجودية ونفسية عديدة، خصوصًا وسط النقلة الحضارية والثقافية التي كانت تزخر بها مصر في وقت أحداث الرواية، فترة ما بعد حرب ثورة يوليو وبعد حرب السويس.

كل تلك الأحداث والتفاصيل والتناقضات التي تحدث في حياة بطل الرواية رام، جعلت كل القراء والنقاد يجمعون على أن الرواية ما هي إلا سيرة ذاتية لكاتبها “وجيه غالي”، وحتى إن لم تكن سيرة لصاحبها، إلا أنه لا يمكن إغفال الذاتية الشديدة فيها. يقول غالي على لسان بطله:

“أنا لست جديرًا بالحب ولا لطيفًا ولا ودودًا، على العكس تمامًا، أنا مخلوق مغرور، ومتعجرف، ومُدّعي معرفة، وغير مثير للإعجاب”.

ويقول أيضًا في موضع آخر:

“ما زال بإمكاني أن أرى السكينة من حولي، ولكني فقدت القدرة على الإحساس بها”.

كان “وجيه غالي” قد زار إسرائيل في عام 1967 ومكث بها ثلاثة أسابيع، وقيل ستة، حيث كتب عدة تقارير إلى مجلة التايمز، ثم عاد سريعًا إلى لندن، لكن يبدو أن تلك الزيارة ظلت وصمة تلاحقه، بل وشكلت له عقدة أخرى هزت صورة حياته في عينيه. كتب “وجيه غالي” في رسائله إلى “ديانا آتهيل”، قبل انتحاره بأيام، يلخص مأساة حياته الدائرة في دورات مفرغة من الاكتئاب الحاد، وليعبر عن انعدام قدرته على المواصلة:

“اللحظة الأكثر درامية في حياتي -اللحظة الوحيدة الأصيلة- هي خذلان مريع.. لقد ابتلعت موتي بالفعل، يمكنني تقيؤه لو أردت، ولكني بصدق وإخلاص لا أرغب في ذلك، إنها متعة، وإنني لم أقدم على ذلك الموت حزينًا أو تعيسًا، على النقيض تمامًا، إنني سعيد تمامًا، وتغمرني حالة من السكون.. السكون”.

رجاء عليش.. عندما يرفضنا الجميع

في أحد بيوت القاهرة، في النصف الأول من القرن العشرين، كانت امرأة تضع مولودها. خرج الولد الذكر من رحم أمه، صرخ في وجه الحياة، حملته القابلة ودارت به على أهل البيت لتبشرهم بالذكر، لكن أحدًا لم يبتسم، ولم يحمله أحد، وإنما تعجب الجميع والتوت شفاههم، وتساءلوا: من أين جاء هذا الطفل القبيح؟ ومن أين ورث تلك الملامح القبيجة؟

يكبر الطفل، ويكبر ذلك التساؤل معه، لم يستطع الهروب منه، أو حتى الإجابة عليه، لأنه ذلك التساؤل كان بمثابة الحكم العلني بالاحتقار والعزل من المجتمع، تساؤل ملتصق بقسمات ملامحه التي لم يخترها. كبر الطفل ليكون “رجاء عليش”.

ولد “رجاء عليش” لعائلة غنية، إلا أنه لم يعش يومًا واحدًا سعيدًا، بحسب ما قال عن نفسه في كتاباته، لأنه كانت تطارد لعنة ملامحه القبيحة. لم يفهم “رجاء عليش” ما السبب الذي يجعل الجميع ينفر منه، وما الخطأ الذي اقترفه ليعاني كل هذا الغمز واللمز، والانعزال الإجباري، وظل يقابل تساؤل المجتمع عن قبحه بتساؤل أعنف: ما ذنبي؟

يقول “رجاء عليش” واصفًا وحدته التي لم يخترها:

“أصف لكم نفسي: أنا رجل بلا امرأة.. بلا حقل للقمح.. بلا زجاجة نبيذ.. بلا كرة للعب.. بلا ذكريات مضيئة.. بلا طريق للمستقبل. على قبري ستكتب العبارة الآتية: هنا يعيش إنسان مات أثناء حياته.”

لكنه لم يرض بإلقاء اللوم على نفسه وإنما اختصم كل الناس، حتى أقربهم إليه، أباه، فكتب عنه:

“أبي.. بنوتي لك لا تمنعني من كراهيتك، لا أعتقد أنني حقيقة أكرهك، لكنني لا أستطيع أن أغتفر لك أنك أحضرتني إلى عالم يناصبني العداء الشديد حتى نخاع عظامه.. أنا أتعذب، أتعذب وحدي على إيقاع ضحكات الآخرين وسخرياتهم.. ربما لذلك يا أبي لن أكرر المأساة مع أحد من صلبي.. من صلبي.. تكفي مأساة واحدة أليس كذلك؟”.

كان “رجاء عليش” يؤمن -ككل الناس- أن لا أحد يختار شكله، ولا يختار نفسه أصلًا، لكنه لم يعرف كيف يقنع المجتمع بذلك، كيف يعدل سلوكهم معه، وهو لا يستطيع مداراة وجهه منهم، حتى وإن لم يقتنع بأنه قبيح حقًا، إلا أن اقتناعه ذلك لم يكن ليجاوز أفكاره حتى يصطدم بقبح المجتمع الأشد والأعتى من كل شيء. ونفس الإنسان منا خفيفة جدًا، سهلة الفرح، سهلة الحزن والتهشم، كذلك كانت نفس “رجاء عليش”، تتوق إلى امرأة، فتصبح رفيقته في تقلبات الحياة ومتابعها، وتتوق أيضًا إلى شلة من الأصحاب، يرتكن إليهم، يشكو إليهم، لكن نفسه تهشمت بدل المرة ألف مرة، من النظرات، والعبارات، والصد والاعراض المتكررين، لا لشيء فعله وإنما بسبب ملامح لم يخترها.

لا تولد قبيحا

مع كل تلك الوحدة و الألم الذين حاوطا “رجاء عليش”، لم يجد مهربًا سوى كلماته، حاول التعبير عما بداخله، أن يقذف صرخة في وجه قبح العالم، فكتب مجموعة قصصية بعنوان “لا تولد قبيحًا”، دشن فيها مواقف وقصصًا مختلفة، تشكل اعتراضًا فجًا على ما لاقاه في حياته من تعامل سخيف وسمج، ثم تبعها برواية تحت عنوان “كلهم أعدائي”، والتي تعتبر مونولوج طويل من شكوى وألم لا ينقطعان.

لم يلق “رجاء عليش” في حياته احتفاءً نقديًا كبيرًا، أو حتى من القراء، فشعر بالرفض في كل حياته، سواء ككاتب أو كشخص عادي، فلم يستطع في النهاية أن يقابل كل ذاك الرفض إلا برفض أعنف منه وأشد وقعًا على نفوس كل من يعلم به فيما بعد. جلس “رجاء عليش” في سيارته، بعد أن ركنها على مقربة من الحي الذي يسكنه، وكتب في ورقة صغيرة شكوى إلى النائب العام، يختصم فيه الناس والحياة، كتب:

“عشت هذه السنين الطويلة وأنا أحلم بالانتقام من أفراد المجتمع الذين أفلحوا في أن يجعلوني أكفر بكل شيء”.

ثم أطلق النار على رأسه.. يقول “رجاء” في مقدمة روايته “كلهم أعدائي”، وكأنه كان يرثي نفسه مسبقًا، كالذي يتوقع كيف سيصل به مسار حياته في النهاية. يقول:

“أرقد أيها القلب المعذب فوق صدر أمك الحنون واسترح إلى الأبد… دع أحلامك الميتة تتفتح كزهرة تعيش مليونًا من السنين… أنت أيها الملاح التائه في بحر الظلمات البعيدة لقد جئت إلى أمك الأرض لتعيش في حضنها إلى الأبد… ألقيت بمراسيك في المياه الدافئة العميقة وأمنت من الخوف… نفضت عن شراعك الثلج والبرودة وأيقظت الشمس في قلبك واسترحت إلى الأبد… نم هانئًا سعيدًا يا من لم تعرف الراحة في حياتك… أحس بالأمن يا من عشت دائمًا بعيون مفتوحة من الخوف… الموت أبوك والأرض أمك والسلام رفيقك والأبد عمرك”.

أروى صالح.. عندما تتشوه أحلامنا

عبرت “أروى” صالة شقتها، دخلت البلكونة فغمرها ضوء شمس الظهيرة القوي، سندت “أروى” على سور البلكونة وتأملت الشارع، حسبت سنوات عمرها التي مرت، أربعون أو أكثر، فكرت في رفاق الكلية والعمل، الرفاق الذين فرقتهم السنوات والأحداث، بعضهم سكت، وبعضهم انقلب ضد رأيه، والآخرون جلسوا في بيوتهم ساكتين، والبقية اغتربوا في الخليج أو أمريكا، كم حلمًا تحقق من أحلامك يا أروى؟ وكم حلمًا مات فور ولادته؟

صعدت “أروى” على سور البلكونة، امتلأت أذنها بضجيج أبواق السيارات، لكنها لم تعد تبالي بأي شيء بعد الآن، قفزت “أروى” من الطابق الثاني عشرًا، ارتطم رأسها بالأرض، اهتزت القاهرة كلها لدوي سقوط “أروى صالح”، بينما تفتت دماغها على الأسفلت وسط بركة من الدماء، ككل أحلام جيلها.

تحكي “أروى صالح” في كتابها “المبتسرون”، عن نضال جيلها بداية من السبعينيات، لأجل الحرب ولأجل تعديل وجه مصر السياسي والاجتماعي. تقول:

“حين خرجنا للحياة أخيرًا، كان الحطام بالجملة مثل مومياوات اُخرجت للشمس فجأة فتهاوت ترابًا”.

وتقول أيضًا كي توصف مأساة الجيل بعد الانكسارات المتتالية، وتهاوي الرفاق واحدًا تلو الآخر:

“نحن أبناء الزمن الذي فقد فيه حتى الحزن “جلاله” صار مملًا هو الآخر، مثل “البرد” مثل “الصداع”، والملل لا يصنع فنًا، فقط أناسًا مملين.”

ولدت “أروى صالح” في عام 1951، ثم تخرجت من كلية الآداب جامعة القاهرة في أوائل السبعينيات، في تلك الفترة التي كان يتشكل فيها جيل طلابي جديد، ووعي عام جديد، ساهم في تشكيله بصورة أساسية لحظة الهزيمة الفارقة في 1967، وكانت “أروى صالح” أحد أبرز وأهم نشطاء تلك الحركة الطلابية، فقد برزت بشكل لافت وسط زملائها ورفقائها وقتها، حتى أصبحت عضوة في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي المصري الماركسي، وأحد أهم المنظرين لحركة الطلاب، والشهود عليها.

في بداية السبعينيات زلزلت البلد احتجاجات طلابية في ميدان التحرير، كان المطلب الأساسي والمحرك لها هو الفشل عمومًا الذي يلف البلاد بأكلمها، بدءًا بالهزيمة الحربية، وتدهور الأحوال المعيشية، وحتى غياب الأفق السياسي لنظام السادات المؤقت وقتها.

كل تلك الظروف ساعدت في تكوين وعي جديد وخاصة لدى الطلاب الصغار، مما دفع بهم إلى تحريك الوعي الاجتماعي نحو الاعتراض، بل والأحلام العريضة أيضًا.

لكن تلك الأحلام العريضة لم تتسع الأرض لتحققها، وانزوت أكثر بعد انتصار أكتوبر، وتنصيب السادات بطلًا قوميًا. لكن معاهدة كامب ديفيد ثم ممارسات السادات الإقتصادية بعثت تلك الطموحات والأحلام من جديد، ثم لم يلبث نظام السادات أن يقضي عليها تمامًا بحركة اعتقالات عنيفة، وتفريق استبدادي لكل مظاهر الاحتجاج أو العمل السياسي.

المبتسرون

نشرت “أروى” كتابها “المبتسرون” بعد تلك السنوات بزمن طويل، في عام 1997، وقبل انتحارها بعدة أشهر، لتعبر فيه عن مشاعرها تجاه ما حدث، ولتنتقد فشلها الخاص وفشل الجيل عمومًا فيما أسمته “مشروع التحرير الوطني”. وبرغم انتحار “أروى” في أواخر التسعينيات، إلا أنها ظلت حاضرة وبقوة في أدبيات جيل السبعينيات، بل وفرضت نفسها أيضًا على مخيلة جيل ثورة يناير 2011، ربما لتطابق الأحلام والطموحات في مسار التحرير الوطني، وتشابه الفشل والتحطم المدوي لكل شيء. تقول “أروى صالح” عن جيلها وكل الأجيال المصرية المهزومة أيضًا:

“لقد مسه سحر الحلم مرة، وستبقى تلاحقه دومًا ذكرى الخطيئة الجميلة -لحظة حرية، خفة لا تكاد تحتمل لفرط جمالها- تبقى مؤرقة كالضمير، وملهمة ككل لحظة مفعمة بالحياة والفاعلية، ومؤلمة فالواقع أن سكة (اللي يروح ما يرجعش) ليست سكة ثالثة إنما هي كامنة في قلب اللحظة التي تقامر فيها بوجودك لتتبع الحل”

عانت “أروى صالح” من مرض اكتئاب حاد، ومن نوبات شيزوفرينيا على مدار حياتها، وحاولت الانتحار أكثر من مرة، حتى ظهيرة يوم السابع من يونيو عام 1997، مخلفة وراءها حزن جيلها، وانكسار كل الأجيال الحالمة بالتغيير في مصر.

تقول “أروى” عن نفسها:

 “أقدر أموت عشان قضية، ساعتها الموت بيبقى جزء لا يتجزأ من الحياة”

عنايات الزيات.. عندما لا يعبأ بنا أحد

ولدت “عنايات الزيات” عام 1936، وتوفيت عام 1963، تبدو لوهلة تلك حياة قصيرة غير حافلة بشيء، إلا أن قلب “عنايات” كان دومًا مثقلًا بالوحدة، والشعور الكثيف بالخنقة من روتين حياتها، وأيضا الرغبة في الانطلاق والتجديد.

كانت “عنايات” ابنة السيد عباس الزيات، المقرر السابق لجامعة الدول العربية، وهي أوسط إخواتها، الكبرى عايدة، والصغرى عظيمة. تعلمت عنايات في المعهد الألماني بالقاهرة، وكانت صديقة شخصية للفنانة “نادية لطفي” في سنوات الدراسة، لم تكمل “عنايات” دراستها، وإنما تزوجت من طيار من أسرة أرستقراطية عريقة، وبالطبع لم تنجح الحياة بينهما، فحاولت “عنايات” أن تتطلق، لكنها للأسف لم تستطع.

في خضم مشاكل قضايا الطلاق والمحاكم، تركت “عنايات” بيت الزوجية، وعادت لبيت أبيها، ثم عملت في أرشيف مكتبة المعهد الألماني بالقاهرة. وسط كل تلك المشاكل، كانت “عنايات” تشعر بالوحدة، فأختيها تزوجتا، ولم تكونا قريبتان منها أصلًا، وصديقتها الوحيدة “نادية لطفي” كانت في أوج ظهورها ونجوميتها السينمائية، انغمست “عنايات” في القراءة التي أدمنتها من الصغر، ومشت وراء حلمها في أن تكون كاتبة، وعلمت نفسها العربية خصيصًا كي تكتب وتعبر بها.

الحب والصمت

في تلك الفترة كتبت عنايات روايتها الوحيدة “الحب والصمت“. تقول عنايات في يومياتها التي لم تنشر:

“أيها القلق.. تعال طوقني واطرد الجمود الذي يخنقني.. تعال امسح بمرارتك على فمي، واصبغ عالمي كله بالمرارة، ولكن لا تتركني للجمود، تعال فأنا ضائعة تبحث عن لون حياتها. الكون يجري إلاي. أنا الجامدة..”

تسرد “عنايات” في روايتها حكاية نجلاء، الفتاة الغنية، التي يموت أخوها فيفتح ذلك الموت في عقلها تساؤلات عديدة، ويغير نظرتها لحياتها كلها. تعاني نجلاء من الوحدة والروتين، ولا أصدقاء لها سوى صديقة وحيدة اسمها نادية، أفقر منها لكنه ذكية وجميلة. تبحث نجلاء في حياتها عن معنى لكل شيء، حتى تقابل أحمد الشاب الثوري الذي يشكل وجوده تغييرًا كبيرًا في تعاطيها مع الحياة والناس والأفكار. للوهلة الأولى تبدو نجلاء هي نفسها “عنايات”، ولا يمكن إنكار الصورة الذاتية عن “عنايات” الموجودة في نجلاء، كأن عنايات أرادت أن تعبر عن كل ما تشعر به دفقة واحدة في تلك الرواية.

تقول “عنايات” على لسان بطلتها:

“أنا أحس بالغربة عن الناس. أحيانا أشك أنني أحيًا فعلًا، وأنني موجودة. سأترك جثتي الحية تعوم على صفحة الليل لتنقلني للغد، لأيام أخرى قديمة”

للأسف لم تنشر تلك الرواية فور انتهاء “عنايات” منها، بل ماطلت فيها دور النشر كثيرًا. كانت “عنايات” في ذلك الوقت قد بدأت التحضير لرواية أخرى عن عالم المصريات الألماني “كايمر”، إلا أنها خسرت قضية الطلاق، ثم انتقال حضانة ابنها عباس إلى زوجها، ورفض دور النشر لروايتها الأولى، حدثت كل الأشياء السيئة في توقيت واحد، فتملك “عنايات” إحباط شديد، وفقدان لأي معنى في الحياة.

في يوم 5 يناير 1963، قصت “عنايات” شعرها، كانت تبدو كأنها تستعد لحفلة من نوع ما، مرت على إحدى صديقاتها، سلمت عليها، ثم عادت للبيت وتناولت قرابة العشرين حبة منومة، فردت عليها غطاءً ثقيلًا، لاتقاء البرد، ثم ذهبت في نوم للأبد. رحلت “عنايات” وهي في السابعة والعشرين تقريبًا، ولم تترك جوار السرير سوى ثلاث ورقات بيضاء، مكتوب في إحداها رسالة من سطر واحد لابنها عباس تتمنى له حياة سعيدة. تقول عنايات في يومياتها التي لم تنشر:

“أريد لقدمي أن تعرف أرضًا مختلفة عن بيتي.. والشارع المؤدي إليه.. وأناسًا جدد وعقلية تتذوق الحياة بطريقة مختلفة.. يا غد.. أعطني بساط الرحيل لأطير لعوالم أخرى فأنا أحب المجهول”

لا نملك في النهاية إلا قول “ألبير كامو” إن تقرير إذا كانت الحياة تستحق أن تعاش هو السؤال الأساسي الذي تنتج عنه كل الأسئلة الأخرى.

كتب PDF ، كتب و روايات PDF ، أفضل تجميعات الكتب، كتب عالمية مترجمة ، أحدث الروايات و الكتب العربية ،أفضل ترشيحات الكتب و الروايات، روايات و كتب عالمية مترجمة.