بيت من لحم للكاتب يوسف إدريس

بيت من لحم ومفهوم القصة القصيرة

ما دمنا سنتكلم عن المجموعة القصصية فنحن على موعد مع المقارنة الأزلية بينها والرواية. لسبب ما، أرى دومًا القصة القصيرة محاولة لانتقاص الحياة لا تمجيدها. بعكس الرواية التي تحتفي بكثرة الشخصيات وتتابع المواقف وتطور الأحداث (فتشابه الحياة من هذه الزوايا)، تبدو القصص القصيرة، للوهلة الأولى، محاولات عجلى لإحكام تصورات عن العالم والناس.

هذا صعب التفادي في الحقيقة، فإن الرواية مهما تشدد صاحبها في نثر الملاحظات بين سطورها وتغذيتها بهويته وروحه ووجهات نظره، تستطيع من مجرد تمدد مسارها أن تمتلك حياتها الخاصة وتستقل، أن تخرج جزئيًّا عن سيطرة الكاتب محققة مغزاها الخاص بها والذي يحدث كثيرًا أن يتعارض مع مغزى الكاتب الأصلي. لأجل هذا يصعب أن تحتمل الرواية، خاصة إن طالت، ترميز الكاتب ومجازاته التي يسهل في العادة أن تحتملها القصة.


القصة التي سنختار

من الصعب تقييم المجموعات القصصية فضلًا عن الكتابة عنها، فهي في الغالب متراوحة المستوى تتعدد موضوعاتها، وقد تفصل أعوام بين قصتين تضمهما مجموعة واحدة، وبالتالي هي لا تتمتع بالتناسق الذي تتمتع به الرواية إذ من الصعب تخيل كاتب يجلس إلى مكتبه لينشئ تباعًا مجموعة من القصص. من الصعب عليّ على الأقل.

سنكتفي في هذا المقال بتحليل القصة التي سميت باسمها مجموعة “بيت من لحم”. لا أملك أسبابًا وجيهة أقدمها لاختيار هذه القصة بالذات، ربما لأنها الأقرب لقلبي وربما لأنها أكثر ما استفزني وحفّزني للقول في المجموعة، وربما السبب في كسلي الذي يحجزني عن متابعة التمحيص والتدقيق في الانتقاء. لا فارق كبيرًا في كل الأحوال فكل القصص كتبها القاص المميز نفسه، كما أنني أحتفظ بأمل في العودة للمجموعة ومواصلة عرض قصصها المستحقة للنظر.


بيت من لحم: نموذج عن الخيارات

أخذ الأدب على نحو شخصي أشبه بتحليل نقاط الضعف المنطقية في النكتة. مع ذلك، ألا يقع أحيانًا أن تكون النكتة ضعيفة الأساس بحيث لا يتمكن سامعها من الانغماس فيها فالضحك؟ الأمر الثاني: إذا كانت القصة قطعة من روح الكاتب، كيف يمكن أن تخلو عن أيديولوجيته ومفاهيمه؟ وكيف يمكن التعامل مع القصة بمعزل عن كاتبها باعتبارها عملًا مجردًا صدر عن هواء محايد؟

هذا محال ببساطة، ورد الفعل الدفاعي الذي تشاهده من القراء (خاصة رد الفعل الأخلاقي) لا يمكن اعتباره غير منطقي. القصة في النهاية نوع من الكلام، وكل الكلام يعبر عن قائله ويكشف مناطف معتمة من ذاته. لا أقول بالطبع إن التعرف على يوسف إدريس، أو محاولة ترقيع صورتي المبهمة عن شخصيته (على نحو أعمق من الذي تتيحه معرفة سيرة حياته) هو الغرض من قراءة القصة، لكن يجب أن نفهم أن عزل الأمرين أحدهما عن الآخر ليس واقعيًا مهما تماشى مع فكرة “الموضوعية” كائنًا ما كان معناها.

أقول: الحياة خيارات وكذا القصص، وإذا كان الخيار الذي تتخذه الأم في القصة خاضعًا للمحاكمة، فخيار يوسف إدريس بكتابة هذا بالذات خاضع أيضًا. لا شك أن القارئ شعر برغبة الكاتب في صدمه وهو يراه يتبع القصة الأولى الجنسية تمامًا بأخرى لا تكاد تختلف كثيرًا. لا أعارض –ولو تلميحًا– القصة الجنسية من ناحية المبدأ فأنا نفسي أكتبها، إنما أشير إلى هذا لأنه ضروري إذا تحرينا في تحليلنا الشمول.

وماذا تخبرنا القصة إذًا؟ أهي هجاء للفقر أم لحاجات الإنسان الجسدية؟ أقَصَد الكاتب إلى تعرية المجتمع الذي يهتم بكلام الناس أكثر من أي شيء آخر، أم قدّم ببساطة “حالة فردية” تعبر عن نفسها لا عما يفوق ذلك؟ المؤكد أن النص تشريح بديع لقدرة الإنسان الظلوم على عقلنة خطاياه والتعايش معها، وعلى إيجاد مبررات لأفحش القبائح على الإطلاق. لا تصدمني هذه القصة ولا أواجهها بالإنكار، ربما هو الغضب من نفسي لأن تقبل وجود هذا المذكور (والواقع دائمًا أردأ) استغرقني عدة قراءات للنص فصلت بينها أعوام.


إذا كانت المشكلة أعمق قليلًا

لاحظ أن كاتب “بيت من لحم” لم يخبرنا شيئًا تقريبًا عن المرأة وبناتها سوى أنهن “عازبات تائقات للزواج”. هذا هو كل ما نعرفه عنهن عمليًا، ولا يعني بالضرورة أن القصة احتاجت إلى مزيد من التفصيل، لكنه يفيد بلا ريب الجهة التي يهم الكاتب تسليط الضوء عليها. الآن، ماذا عن الجهات الأخرى المتجاهَلة؟ لا أزعم لنفسي قدرة على النفاذ إلى ذهن “يوسف إدريس” بالطبع لكني أشعر بأن هذا المتجاهَل لا يقل ثقلًا عن المذكور.

فإذا بلغت حاجة الإنسان إلى غيره (من جنسه أو الجنس الآخر) هذا الحد الذي أجاد الكاتب عرضه، ألا يعني أن المشكلة أعمق من مشكلة غياب الشريك بغض النظر عن صورته؟ إذا كانت رغبات الأم والبنات الثلاثة قد شطحت إلى الدرجة التي تطلبت التواطؤ على فعل بهذه الدناءة، ألا يوحي بأن المأساة أكبر من “الحاجة إلى الجنس” التي يبدو أن كل قارئ للنص يقفز إليها بلا إبطاء؟ ماذا لو أنه –وهو جدير بإخفاء المغزى بإحكام– يحاول إبراز سوء الفقر بشكل عرضي فحسب، فيما يعمد أساسًا إلى إظهار هشاشة وجود المرأة في مجتمعنا، وانعدام وجودها الحقيقي خارج ظل الرجل وسماح القوم؟

بالطبع، وبرغم أن فظائع الواقع تؤمّن للخيال سقفًا من الطموح شاهق العلو، فإن كل المقول تابع للتسليم بالفرضية التي هي قوام القصة؛ إذ إن النص لم يعرض أي خروج عن المعتاد يمهّد لهذه النتيجة الرهيبة. أليست هذه الصورة المعروضة متوافرة بكثرة؟ فما الذي يعنيه إذن تسجيل نهايتها باعتبارها سلسة منطقية ملائمة للمسار ونحن نعلم إحصائيًا أنها ليست بالنهاية الطبيعية؟


معضلة فحص الأدب

يختم الكاتب قصته الرائعة –ها أنا ألخص كل ثرثرتي في حُكم– بالصمت. تصل “بيت من لحم” إلى لحظة من التوتر تشمل جميع أركان المؤامرة: صمت مطلق هو ضريبة الانقياد للرغبة على حساب القيَم التي لم يظهر لنا خلال النص أي وجود لها. إذا كان الشبع قد تحقق فقد ذهب الضحك والائتلاف إلى غير رجعة. ربما لنعلم أن هذه النتيجة وإن كانت صالحة للاستعمال في سياق ذم الفقر، فإنها معيبة على نحو سيجعل شخصيات الرواية (ربما) تعيد نظرها في مدى جدواها وقابليتها للاستمرار.

لكنها أيضًا تفضح هيام الناس بالشكوك، إذ هي تطرح من الانفلات وعدم الالتزام ما لا يطرحه الفهم الحاسم. ألا يبدو هذا ملائمًا لركون الناس إلى الجهل وعزوفهم عن العلم؟ ألا ترى كيف احتمى المقرئ الأعمى بمزية الشك فنفى عن نفسه الحرج واطمأن، رغم أنه واقعيًّا يمكن إزالته بأسهل اختبار؟

طبعًا تكمن معضلة فحص القصة –وكل أدب– في الموازنة بين خيالية النص من ناحية المبدأ؛ إذ هو أوهام قرر “يوسف إدريس” ذات مساء أنها صالحة للتدوين، وهو مكون من عوامل يصعب على الكاتب مهما بلغت مهارته السيطرة عليها كلها.. وبين واقعية القضايا التي تشير إليها “بيت من لحم”، وأهمية الرسائل المتضمنة بين سطورها، وقدرة المحلل على التوفيق بين الأمرين بحيث تتمكن القصة المختلَقة من التأثير على تصورنا للحوادث الحقيقية وآرائنا ذات الوجود المكين. أما المسؤولية الأكبر من هذه فهي مسؤولية الكاتب.