لعل الكثير ممّن يميلون إلى العزلة ساحرون، وهم عظماء ... شخصيات رومانسية يتمتّعون بحياة عزلة ناجحة، وبيئتهم هي البريّة، ونصرهم في النهاية هو مزيجٌ من العزيمة والإبداع والاعتماد على الذّات.
ومن الأسباب التي تجعل مثل هذه الشخصيات تبدو جذابًة روحُ الطّمأنينةِ التي يبثّونها، فيتركون انطباعًا مريحًا بأنّ أيّ شخصٍ قادرٌ على الازدهار في العزلة كما يفعلون. ويمكن تلخيص هذا الشّعور بالطّمأنينة في كلمات الإعلان الذّي أدلى به الدكتور ستوكمان في نهاية مسرحية “عدو الشّعب” (١٨٨٢م) للكاتِب المسرحيّ ( هنرك إبسن )، بعد أن اضطهده السكان المحليون لكشفه أنّ الحمّامات السّياحية في البلدة ملوثة، فيعلن ستوكمان قائلًا : “الرجل الأقوى في العالم هو الأكثرُ وحدًة.”
ويُجسّد المنعزلون العظماء فكرةَ الحريّةِ من تقلّبات الحياة الاجتماعية وضغوطها، فنجد أنفسنا -نحن البشر- عرضًة لمزاجِ وميولِ وأيديولوجيّاتِ وتصوّراتِ ومعرفةِ وجهلِ بعضنا البعض، كما أنّنا عرضة لأعرافِ مجتمعنا وسياساته وتسلسلاته الهرميّةِ، ونتلمّس مؤازرةَ الآخرين، بل وفي كثيرٍ من الأحيان مساعدَتَهم، من أجل الحصول على الموارد، فسواء أكنّا صغاراً أمْ متقدّمين في العمر، إلّا أنّنا نظلّ على ضعفنا بقدرٍ لا تصبحُ حياتنا سعيدًة معه إلَّا عندما يُبدي الآخرون الاهتمامَ بنا.
لا عجبَ إذنْ؛ إنّ رواية “روبنسون كروزو” واحدًة من أشهر الرّوايات في التّاريخ، فنستقي الكثيرَ من الصّبر والسّلوان من قدرة هذا الناسك على الاستقلال بالاعتماد على الذّات، إلّا أنّ هذه الصّورة الرّومانسيّة لحياةِ النّاسك تستندُ إلى فكرةٍ خاطئةٍ عن كلٍ منْ ظروف المنعزلين العظماء، وطبيعة العزلة الاجتماعيّة.
إنّ النُّسَاكَ المعروفين – سواء أكانَ في الحياة الواقعيّة أم في الخيال – دائماً يكونون من الذّكور، وعادًة يكونون شباباً يتمتعون باللياقة والصحة، كما أنّهم عادًة بلا أطفالٍ ولا زوجاتٍ.
أنّهم يصوّرون اكتفاءً ذاتيًا صارمًا، لا يمكن إلّا للقلّة القليلةِ من محاكاته، إضافًة إلى ذلك، نجدُ في تفاصيلِ قصصهم أدلًة على أنّهم لا يعتمدون على أنفسهم اعتمادًا كاملًا، فتَقعُ (بركة والدن)على بعد ساعة واحدة فقط سيرًا على الأقدام من كونكورد – ماساتشوستس، وكان ثورو يزور المدينة بانتظامٍ خلال سنوات عزلته، وكان دائمًا يحتفِظُ بثلاثة كراسي جاهزة للضّيوفِ؛ (فكرسيّ واحدٌ يمثّلُ الوحدةَ،وكرسيّان يمثّلان الصّداقة،أمّا الثلاثة كراسي فتمثّل الحياة الاجتماعية)،ولاحظ أنّه في بعض الأحيان كان هناك ٢٥ أو ٣٠ شخصًا تحت سقفه.
أمّا الرّهبان البوذيون، فقد يلتزمون الصّمت لشهور طويلة، إلّا أنّ أتباعهم وأفرادَ العامّة يحرصون على دعمهم وإطعامهم. علاوةً على ذلك، فإنّهم يخضعون لسنوات من التّدريب قبل أن ينسحبوا إلى العزلة، والتّي يركّز الشّق الأكبر منها على تنميةِ الحالاتِ الاجتماعيّة العميقة للقلب والعقل، مثل التّعاطف والعطاء والفرح في سعادة الآخرين، كما أنّ د. ستوكمان،شخصيّة “أبسن”المسرحيّةِ، يحتضنُ زوجته وابنته، بينما يعلنُ مُنتصِرًا” أنّ الرجل الأقوى هو الذّي يقف بمفرده.”
ولعلّ أحد النُّساك الحقيقيين -الذّي يبدو مختلفا- وهو ريتشارد بروينكي، وهو نجّار عسكريّ متقاعد وعالِمُ طبيعةٍ هاوٍ، والذّي عاش بمفرده قرابةَ الثلاثين عاماً في توين ليكس بولاية ألاسكا. وقام بروينكي بتسجيلِ حياته هناك في مقاطع فيديو، تمّ استخدامها لاحقًا في صناعة الفيلم الوثائقيّ “وحيد في البريّة” (٢٠٠٤م)، وكان بروينكي يتلقّى الإمدادات من طيّار الأدغالِ على فتراتٍ مُتباعدةٍ،إلَّا أنّ كوخه كان يصعبُ الوصول إليه خلال فصل الشّتاء،ممّا أدّى إلى عزله تمامًا.
وكان لدى بروينكي، بالطّبع،مثل غيره من الأشخاص المنعزلين العظماء، مجموعة متطوّرة من المهاراتِ المكتسبةِ اجتماعيًا، والتّي جعلت الحياة الانفرادية ممكنة، وجعلت من تلك البريّة القاسية خلفيًة غنيًّة لحياته.
فالبريّة ليست مجرّد مصدرٍ للتّحفيز الحسيّ، ولكنّها أيضًا مصدرٌ للتّواصل الاجتماعيّ بين الأنواع المختلفة، فيجدُ المنعزلون رفقاءً في العالَمِ الطّبيعيّ، وكان لدى بروينكي طائر أليفٌ،كما كان يراقب أيضًا تحرّكات العديد من الكائنات الأُخرى. وكان لدى روبنسون كروزو كلب وقطّتان وبعض الماعز وببغاء، ولاحقًا أصبح لديه رفيقٌ بشريّ اسمه “فرايداي.” وشخصيّة أُخرى، تشبه كروزو،هو سام غريبلي البالغُ من العمر 12 عامًا،بطلُ روايةِ الأطفال “جانبي من الجبل” (١٩٥٩م) لجان كريغيد جورج،الذّي أخذ صقرًا صغيرًا من عُشّه، فدربه وأطلقَ عليه اسم “فرايتفول” (المخيف)،كما أنّه تبنّى كائنًا يشبهُ ابن عرس وأسماه “البارون.”
يحدث الشّكل نفسُه من أشكال الأنسنة في فيلم “المنبوذ” (٢٠٠٠م)،حيث يؤنس توم هانكس الذّي يبدو محرومًا من أيّ احتكاكٍ بالحيوانات على الجزيرة المهجورة،يؤنّسُ كرةً طائرةً،فيمنحها وجهًا ويطلق عليها اسم “ويلسون”وعندما يفقدها يصاب بحزن دفين.
أمّا العزلة الحقيقيّة، التّي لا رحمة فيها، فلا تتميّزُ بأيّ رومانسية على الإطلاق، بل إنها أسوأ بكثير من ضغوط الحياةِ الاجتماعيّة في الواقع، فمثلًا، وعلى النّقيضِ من نجاح بروكيني الذّي تلقّى تدريبًا عسكريًّا، قضى المتجوّل كريستوفر ماكاندليس نحبَهُ جوعًا في ألاسكا في عام ١٩٩٢م، بعد أن غامر في البريّةِ بمفرده مع القليلِ من الإمداداتِ ودونَ خبراتٍ، فكان ضحيًّة للصّورة الخياليّةِ للنّاسك في البريّة.
علاوةً على ذلك، فإنّ الأدلة المأخوذةَ من الأشخاص الذّين عانوا من العزلة الاجتماعية غير المرغوب فيها، ومن بينهم الصّحفيان الأمريكيان جيري ليفين وتيري أندرسون،اللذّان تمّ احتجازهما في الحبس الانفراديّ في لبنان بوصفهم سجناءَ سياسيين من قبل حزب الله في الثّمانينيات – كانت تجربًة مؤلمًة. كما وصف سجين سياسيّ آخر، وهو شين باور، الذّي احتُجِز بمعزلٍ عن العالم الخارجيّ لمدة ٢٦ شهرًا في إيران،وصف تجربته بالرّعب الأسود، ولاسيما رغبته اليائسة في إعادة التّواصل مع أشخاص آخرين وحتّى مع آسريه.
تؤكّد الكثير من الشّواهد والأدلّة النّفسيّة المتزايدة على هذه الرّوايات، والتّي تشير إلى أن الاتصال الاجتماعي الدّاعم، والتّفاعل والاندماج ضروريّات لحياةٍ إنسانيّةٍ لائقةٍ بالحدّ الأدنى، ومن ثمّ، على مستوًى أكثر عمقًا للصّحة النّفسية للإنسان. فإننا، إجمالاً، بحاجة إلى بعضنا البعض، فلا يمكننا الازدهار أو حتّى البقاء دون بعضنا البعض. وهذه الاحتياجات الأساسيّة هي الأساس لمجموعةٍ من الحقوق التّي نتجاهلها – ولا ينبغي لنا تجاهُلها – بما في ذلك الحقّ في أن نكون جزءًا من شبكة من الروابط الاجتماعية.
في ثقافتنا الغربيّة الفرديّة – حيث تسود الصّورة الرّومانسية للرّجل الوحيد العظيم – سوف يتطلّب الأمر بعض العضلات الجدلية لإثبات الحاجة الماسة لأن نتبنّى نموذجًا مختلفًا لـ “أقوى رجل”. ويمكننا أن نبدأ بفكرة أنّ القوّة الحقيقية تكمُن في تعريضِ أنفسنا لآلامِ ومعاناةِ الآخرين، وفي الانفتاح على الحميميّة والتأثّر باحتياجات الآخرين،وحبّهم،وكرههم،وآمالهم. فلعلّ الشّخص الأقوى هو الشخص الذي يجعل نفسه عرضًة للآخرين،مع إصراره على البقاء على قيد الحياة، ليصبح شخصًا أفضل بهذه التجربة. أقوى شخصا في العالم هو الأكثر ارتباطاً.