اكتئاب الفيس بوك ..

ذكرت إحدى الدراسات إلى أن الإقلاع عن التدخين أسهل من الإقلاع عن الفيسبوك (في مرحلة الإدمان)، وذلك لتعلق استخدام الفيسبوك بالجانب الاجتماعي والنفسي لدى الإنسان، بعكس التدخين، مما يجعل معالجة الإقلاع عنه أكثر تعقيدًا.


البداية كانت من هنا..

تزايد استخدام مواقع التواصل الاجتماعي مع بداية 2009 عند قيام الاحتجاجات في إيران، وذلك بسبب الدور الذي لعبته تلك المواقع، وعلى رأسها تويتر في نقل ما يجري على الأرض.

مع وصول الاحتجاجات للعالم العربي تزايد مستخدمو الفيسبوك بشكلٍ كبيرٍ، فأصبحت تجد جميع أفراد الأسرة مثلًا على الفيسبوك، ولم يعد غريبًا أن تجد الجدة والأم والحفيدة يستخدمون الفيسبوك معًا.

وجود عدة أجيالٍ مختلفة يستخدمون نفس وسيلة التواصل لا بد وأن ينتج عنه بعض المفارقات التي قد تكون مضحكةً  بسبب اختلاف طريقة الحياة، وطريقة التفكير، وطريقة النظر للأمور بينهم، وانتقل هذا الصراع بين الأجيال من المنزل إلى الصحفات الاجتماعية.

فمثلًا، من غير اللائق أن يقوم الأب بكتابة تعليقٍ ما ولا تقم الأم بالإعجاب به، فهذا يقلل من احترام الأب أمام الأولاد. ومن غير اللائق أيضًا أن يقوم أحدهم بالإعجاب بما تنشر ولا تقوم أنت برد الإعجاب لاحقًا.

كما يمكن أن يحدث في الفيسبوك مشاجرات وانفعالات واستفزازات من خلال التعليقات والبوستات، تمامًا كما يحدث في الحياة الواقعية، الفارق هنا أن نتائج المشاكل الإلكترونية يمكن أن ينعكس على الحياة الواقعية، فأصبحنا نسمع بقصص الحب والطلاق والزواج بسبب الفيسبوك.

كما صرنا نرى صفحات الفيسبوك أصبحت مصدرًا لجس نبض الشارع ولإطلاق الشائعات أو المظاهرات أو الحملات، والتي في الحياة الواقعية انعكست أرقامًا لحوادثَ أبطالها أشخاص حقيقيون. كما أصبحت صفحات الفيسبوك مصدرًا للأخبار يضاهي أكبر محطات الأخبار العالمية…

وفي المحصلة، فإن الفيسبوك انقلب من مكانٍ للمتعة والضحك وتمضية الوقت المرح مع الأصدقاء إلى مكانٍ جديدٍ أشبه بالمنزل، أو الحارة، فتجد فيه الأسرة، الجيران، الأقارب، زملاء العمل، عناصر الأمن، وهي المكونات الأساسية في حياة أي مواطنٍ عربيٍّ.

وصارت جميع الأعراف والتقاليد التي تعيشها في الحارة أو البيت موجودةً بحذافيرها في صفحتك الإلكرتونية، وبذلك تحول الفيسبوك من مكانٍ للترفيه والهروب من الواقع إلى عائقٍ جديدٍ يضاف إلى مئات العوائق في مجتمعاتنا يمنعك من أن تكون نفسك، أو أن تعبر بطريقتك، أو أن تكون فقط ما تريد أن تكون.

ومن جملة تلك العوائق أنك أصبحت تهتم بمظهرك ونشاطاتك الإلكترونية أمام الآخرين أكثر من اهتمامك بالنشاطات بحدِّ ذاتها، وكذلك أصبحت تهتم بتتبع نشاطات الآخرين الإلكترونية أكثر من اهتمامك بالتواصل الحقيقي معهم ( عبر الهاتف مثلًا) ، وأصبحت نشاطاتك الإلكترونية تعبر في كثيرٍ من الأحيان عما يتوقعه الآخرون منك، وبذلك تسقط في مصيدة التعاسة، التي ربما سقطت فيها سابقًا في حياتك الواقعية، وهي التصرف وفق معايير الآخريين…

هل حدث و فعلت شيئًا ما ( التقاط صورة مثلًا أو زيارة مكان) خصيصيًا لكي تعرضه على الفيسوك؟ هل يمكن أن يعني ذلك أنك تقوم بذلك النشاط  من  أجل الآخرين أكثر من نفسك ؟

هل حدث أنك لم تتواصل منذ سنواتٍ بشكلٍ حقيقيٍّ مع أحد الأصدقاء الذين تتابع نشاطهم باستمرارٍ على الفيسبوك؟ هل يمكن أن يعني ذالك أنك مهتمٌ بتمضية الوقت بمعرفة أخباره أكثر من اهتمامك به شخصيًّا؟ وهو نفس السبب الذي تتابع لأجله نشرة الأخبار، لمجرد الترفيه أكثر من اهتمامك بصاحب الخبر نفسه؟


من وجهة نظر بحثية..

الفيسبوك هو اختراعٌ جديدٌ نسبيًّا فلا يوجد تأكيدٌ على نتائج استخدامه على المدى البعيد، ولكن مع ذلك هناك أبحاث مهمة قامت بها جامعات مهمة لدراسة تأثر الفيسبوك على سلوك المستخدم، وتوصلت جميعها لنتائجَ متقاربة يمكن للقارئ الاطلاع على بعضها في المراجع المذكورة في نهاية المقال.

فمن النتائج المشتركة بين معظم الدراسات مثلًا أن معظم المستخدمين يقومون بتصفح الموقع يوميًّا وبشكلٍ منتظمٍ، وأن استخدام الفيسبوك بكثرةٍ قد يؤدي إلى الاكتئاب أو إلى ظهور مشاعر الغضب أو الوحدة، وذلك لأنك ترى فقط الجانب الإيجابي من حياة أصدقائك من خلال ما ينشروه. نفس المشاعر قد تتكرر عند حصولك على عدد أصدقاء أو إعجابات محدود..

ومن النتائج أيضًا أن سلوكك على الفيسبوك وطريقة تفاعلك يحدد سلوكك ومواصفات عقلك ونفسك، فمثلًا، مشاركتك الزائدة لتفاصيل حياتك اليومية قد تعني أنك تفتقر إلى الاهتمام، وتغيير صورتك الشخصية باستمرارٍ يمكن أن تعكس حاجتك لقبول الآخرين لك من خلال تغيير طريقة ظهورك أمامهم.


ماذا عن الأطفال..

المهم، طالما أنك خارج دائرة الإدمان وطالما أن لديك الوعي لتعرف بأن الفيسبوك شيءٌ والحياة خارج الشاشة هي شيءٌ مختلفٌ تمامًا فأمورك بخيرٍ.

الحقيقة أنك لستَ محور القلق هنا.. مصدر القلق هنا هو طفلك.

السبب الذي دعاني لكتابة هذه التدوينة هو خبرٌ قرأته على أحد المواقع الطبية وفيه أن أكاديمية طب الأطفال الأمريكية فرضت إجراءات جديدة على أطباء الأطفال، ليقوموا بها كجزءٍ من الفحص الروتيني الذي يخضع له الأطفال تتعلق بسؤالهم عن حياتهم الرقمية، الهدف من ذلك هو التشخيص المبكر لحالة “اكتئاب الفيسبوك” إن وجدت.

فبعد أن يقوم الطبيب بسماع دقات قلب الطفل ورئتيه وما إلى ذلك يقوم بسؤاله عدة أسئلةٍ عن الفيسبوك، إن كان يملك حسابًا، وكم عدد أصدقائه وكم مرة يتواصل معهم في اليوم؟وغير ذلك.

بناءًا على أجوبة الطفل وردة فعله يمكن للطبيب أن يوصي بأن حالة الطفل الفيسبوكية طبيعية، أو يقوم بإجراء فحوص أخرى تنتهي بتوصيف حالة الطفل بأنه يعاني مثلًا من عزلةٍ اجتماعيةٍ على الفيسبوك، أو أن لديه ميول عدائية، أو أنه يقضي وقتًا طويلًا على الموقع مما قد يؤذي حياته الواقعية في المستقبل، و بناءً عليه قد يوصي بعلاجٍ وحميةٍ له، وربما لأهله أيضًا.



من وجهة نظر الجمعية فإن الفيسبوك ليس مجرد موقعٍ يقضي الأطفال وقتهم فيه من أجل التسلية أو مشاركة الصور مع الأصدقاء بعيدًا عن إزعاجهم للأهل، بل هو سلوكٌ كاملٌ يجب معاينته ومراقبته بدقةٍ.

السبب في ذلك أن التمييز بين الحياة الافتراضية والحياة الواقعية ليس واضحًا وربما ليس موجودًا بعد عند الطفل كما هو عند البالغ ( إن وجد). الأجهزة الإلكترونية تشكل مكونًا هامًّا من مكونات الطفولة هذه الأيام، والأطفال يفضلون قضاء أوقاتهم أمام الأجهزة الإلكترونية على أن يقوموا بنشاطاتٍ فيزيائيةٍ أو اجتماعيةٍ، أضف إلى ذلك أن بعضهم خجولٌ، والتواصل الاجتماعي الافتراضي عبر الشاشة يشكل الوسيلة المفضلة والوحيدة لديهم.

النشاطات الإلكترونية تساهم الآن بشكلٍ أكبر في التكوين العاطفي والنفسي للطفل، وربما تؤدي لاكتئابٍ فيسبوكيٍّ إذا شعر الطفل أنه بعزلةٍ إلكترونيةٍ عن بقية أصدقائه، أو ربما تزيد من قلة ثقته بنفسه.


التعليقات الإيجابية المستمرة من قبل أصدقائه ومشاركتهم لصورهم ونشاطاتهم بشكلٍ لا يستطيع الطفل مجاراته في حياته الواقعية تجعله تحت تهديدٍ حقيقيٍّ بأن يتعرض للاكتئاب الإلكتروني، مما يجعله يقضي وقتًا أطول أمام الشاشة، ويساهم في فشل الطفل لاحقًا في نشاطات حياته الواقعية على حساب الحياة الافتراضية.

في تلك الحالة فإننا نسمح للأطفال بالولوج والانخراط غير المنضبط في الحياة الافتراضية قبل أن نعلمهم كيفية وقواعد استخدامها، أو على الأقل أنها ليست حياةً واقعيةً، وكأنك بذلك تسمح لطفلك بقيادة السيارة قبل تعليمه القيادة.

من النصائح التقليدية لتجنب وصول الطفل إلى حالة الاكتئاب الإلكتروني هي القدرة على مجاراته أولًا، فإن كان طفلك يملك حسابًا على جميع مواقع التواصل الاجتماعي يجب أن تملك واحدًا أيضًا. بعد ذلك يأتي دورك في تعليم الطفل كيفية استخدم تلك المواقع، والتحكم بفترات استخدامها، ومراقبة ما يفعله الطفل بين الحين والآخر.

وكما أن هناك مناهج وتخصصات لتعليم الأهل كيف يتعاملون مع الطفل أو مع فترة المراهقة التقليدية، أعتقد (ويجب) أننا قريبًا سنسمع بتخصصاتٍ لإدارة المراهقة الإلكترونية..

وفي الختام.. لا بد من التذكير بأن تصرفات أطفالك ما هي إلا تقليد لتصرفاتك، فإن كنت تستخدم الهاتف أثناء الطعام أو قبل النوم أو مباشرةً بعد الاستيقاظ، فتوقع أن يقوم أطفالك بتقليدك.