بعد أن تأتي هذه الرواية بهذا الاسم، في وقت انتشر فيه على كافة وسائل التواصل الاجتماعي منشورات: “كن مثل بلال”، والتي استمرّت شهورًا طويلة في مطلع هذا العام، كواحدة من أكثر ظواهر السوشيال ميديا سخافة.
كلها عوامل جعلتني أشعر بضيق حقيقي ممتزج ببعض القلق بخصوص الرواية الجديدة للأديب العراقي…
شيفرة بلال… قدر هائل من التصوّرات المسبقة المتحفّزة التي ستجول في ذهنك وأنت تتأمل عنوان الرواية التي كنت محظوظًا أنها وجدت الطريق إلى يديّك.
تلقائيًا… ستبدأ في ضبط إشارات عقلك على بعض المشاهد التراثية المعتادة، وتتذكر بعض المواقف من السيرة النبوية التي قرأتها كثيرًا.
رواية أخرى تناقش جوانبًا من حياة الصحابي العظيم بلال بن رباح رضي الله عنه.
سيكون لدينا الكثير من العرب، والصحراء، وقريش، وبني عبد المُطّلب، وشِعْب ابن هاشم، والوليد ابن المغيرة، ويثرب… و…
… ونيويورك!
أجواء نيويوركيّة كاملة في مطلع الرواية، تأخذك بعيدًا إلى تفاصيل دقيقة من نمط الحياة الأمريكية، بكل جوانبها الثقافية والبيئية، الأمطار، السماء الملبّدة بالغيوم، وحتى طريقة التعبيرات التي تشعر أنها تماهت تمامًا مع طبيعة الحياة الامريكية.
وبأسلوب قصصي متسلسل مكتوب بعناية، ومع الغوص التدريجي في أحداث الرواية، تجد نفسك بين أحداث رواية ثلاثية الأبعاد، لثلاثة أشخاص: بلال الصغير… وأمجد المتشكك… ولاتيشا المكلومة…
كل منهم يرصد الوجود وفقًا لأفكاره ولطريقة حياته ولفهمه وآلامه ومشاكله، بطريقة شديدة العمق في التحليل، تعبّر عن القارئ بالضبط.
ثم يأتي، العمود الفقري للرواية، الصحابي بلال الحبشي…
وهنا فقط، مع توغّلي أكثر في أحداث الرواية، أدركت تمامًا تفرّد الطرح الذي أنا بصدده، ليس فقط من باب المعالجة، وإنما أيضًا من الدقة في اختيار النموذج المعياري الذي يُرجع إليه بشكل مستمر طوال أحداث الرواية.
ليست رواية دينية / تاريخية إذن، تعالج سيرة الصحابي بمنظور مختلف كما كنت أعتقد…
بل رواية إنسانية / وجودية، تستهدف ما هو أكثر بكثير جدًا (بمليون مرة) مما قد تظن أنها تحمله من عنوانها.
ستقابل نفسك كثيرًا جدًا في هذه الرواية، بهيئتك الحقيقية الكاملة، تعرية كاملة لكل الأقنعة الزائفة التي تستخدمها مع من حولك طوال الوقت، وربما تستخدمها مع نفسك أيضًا.
لن تجد فيها شخصيات خيالية، هي فقط مجرّد وجوه اعتبارية تعبّر عن أوجه شخصيتك أنت بشكل كامل لا لبس فيه، لن يمر عليك وقتًا طويل أصلًا لتفهم هذا المعنى، بمجرد الخوض في أبعاد الرواية.
ستجد أن بلال الصغير المريض هو أنت تماماً… تعبير مُطلق عما تشعر به ويجول في صدرك طوال الوقت من ألم مختلط بالبراءة وعدم الفهم…
بمرور الوقت ستتأكد أن (أمجد) هو أكثر معبّر عن حالتك الآن، وأنك تمرّ في حياتك – ربما كل دقيقة – بما يمرّ به من تساؤلات وحيرة وجودية. الصراع الحاد بين الجمود العلمي، والارتباك في رصد الحياة، وعدم الفهم، ومأزق العلم والدين…
حالة (أمجد) تحديدًا هي الحالة الأكثر وضوحًا وسيطرة وإغراقًا في الارتباك والرصد والتحليل.
وأحياناً… وربما كثيراً، ستجد نفسك في نفس موضع (لاتشيا)…
كل صفحة من الرواية، تحمل داخلها علامات الاستفهام الممزوجة بألم هائل…
علامات الاستفهام المرتبطة بإلحاحك الدائم – الطبيعي – لمعرفة ما يحدث لك، ويحدث لمن هم حولك… حتى لو لم يكن لديك القدرة على الجهر بهذا الشعور، لاعتبارات دينية واجتماعية وثقافية تحيط بك طوال الوقت…
أين الله؟… ما كل هذا الشر؟… ما كل هذا العذاب؟
لماذا مرض ابني / أبي / أخي بالتحديد، بينما الآخرين يبدو أنهم بخير؟!
لماذا أصابني ما أصابني؟
لماذا لا يتدخل الله؟
أين الطريق الصحيح؟… وإذا كان صحيحاً، لماذا لا يبدو صحيحاً دائماً… لماذا يبدو ساذجاً أحمقاً في أوقات كثيرة؟
لماذا كل هذه الكراهية؟
لماذا تجعلنا جيناتنا نمرّ بكل هذا العذاب؟… وواقعنا نمر بكل هذه التناقضات؟
لماذا هذا الاستعباد بين البشر… الاستعباد في الظروف… الاستعباد في الفهم… الاستعباد في الأوجاع؟
لماذا عندما تصرخ طوال الليل طلباً للمساعدة والفهم، وتنظر إلى السماء منتظراً أية علامة… تبدو السماء هادئة للغاية…
لماذا لا يبدو أي شيء منطقي… وعندما يبدو منطقياً، لماذا نجد أنفسنا نحاربه!
لماذا كل هذا التناقض… والألم؟!
وفي كل مرة، يظهر بلال الحبشي ليعطيك “لمحة” من الإجابات…
التنقّل السردي – الوصفة العُمريّة المعتادة – بين ذروة السرد القصصي المُراعي للتفاصيل الدقيقة، والممتزج في نفس الوقت بالخواطر الفكرية التي تجدها متماشية تماماً مع ما تفكر فيه…
هذه الحبكة في السرد جعلت الرواية خطاً متصّلاً لا يمكن الشعور بأي ثغرة أو انقطاع في الأفكار…
الأسلوب بشكل عام بسيط ومفهوم، ولا يميل أبداً للاستعراض البلاغي أو جعلك تتوقف لمحاولة استيعاب الفكرة أو تسلسلها…
أفكار مرتّبة بعناية، مكتوبة بدقة، سياق هادئ متسلسل منضبط الإيقاع بشدة، حريص على انتشالك من أية لحظة ملل، وفي نفس الوقت متهمّل في طرح الفكرة…
الأثر الأساسي الذي سيلازمك طوال فترة قراءتك للرواية، هو أنك ستجد نفسك حتماً تغرق في شرود طويل وأنت تتوقف أمام عبارة ما… أو مشهد ما… أو جملة ما… او تصوّر ما…
كل صفحة في هذه الرواية ستحمل إسقاطاً على حياتك الشخصية… المشاهد التي تراها، الآلام التي تشعر بها، التناقضات الكاسحة التي ترصدها من حولك…
وفي مرحلة ما، سيتحوّل الشرود إلى ما هو أكثر… إلى إضاءات ربما، قشعريرة، مزيد من الحزن، مزيد من الألم… ربما بكاء حار…
وغالباً – وهذا هو الشيء المؤكد – المزيد من الفهم…
الرواية واقعية تماماً، لا تقدم تنظيراً دينياً كلاسيكياً بشكل عام رغم أن بطلها الأساسي يعتبر واحدًا من أهم رموز الإسلام… وهذه هي النقطة الرئيسية التي أثارت إعجابي الشديد بها…
إن البطل الحقيقي للرواية تم تقديمه باعتباره رمزاً إنسانياً حقيقياً، ملائم تماماً للمسلم وغير المسلم، المتدين وغير المتدين، العربي وغير العربي، دون أن يشعر القارئ بأن الكاتب ينظّر لمعانٍ تقليدية، أو أنه يحاول أن يفرض عليك تصوّراً معيناً سائداً.
ثم ذلك الشعور الذي تشعر به بعد انتهاءك من الرواية، إنه بالفعل لم يكن ممكناً أن يستعين الكاتب بشخصية أخرى أصلاً غير (بلال الحبشي) كنموذج إرشادي في معالجة بناء درامي مؤلم بشدة كالذي قدّمه في روايته…
الشخصية الصحيحة… لمعالجة التساؤلات الصحيحة… والآلام الصحيحة… في التوقيت الصحيح الذي نعيش فيه جميعاً الآن… بالطريقة الصحيحة…
وهذا أكثر ما يلفت نظرك في الرواية بشكل أساسي… إنها رواية إنسانية فعلاً، ليست رواية موجّهة أو ترسل لك رسائل خفيّة سريّة لها توجّهات نابعة من فكر مُسبق…
رواية تطرح الأسئلة الذي نطرحها جميعاً… في سياق مغرق بالآلام والارتباك والحيرة والدهشة والخوف، كما يفرض الواقع تماماً…
بعيداً تماماً عن المثالية والنهايات السعيدة أو السياقات المُفرّغة من المنطق أو طبيعة ما تؤول إليه الأمور في الحياة التي نعيشها.
ربما لأن البناء الأدبي للرواية أراه مُمتازاً – ومؤثراً جداً – يمزج بين البساطة في التعبير والعمق في المعاني…
ربما لأنها انتقلت من تصوّر مبدئي نمطي عن الرواية إلى الإعجاب الشديد بها… هذه الحالة دائماً تكون هي الدليل على جودة المنتج الأدبي …
ربما لأنها تقدم طرحاً بعيدًا تماماً عن التنظير التقليدي الممل بخصوص التعاطي مع مفاهيم الإيمان والإلحاد من ناحية… ورصد الواقع الذي يعج بقدر هائل من المتناقضات والآلام بأمانة وواقعية من ناحية أخرى…
ربما لأنها مناسبة تماماً للقراءة لكافة الأعمار…
ربما لأنها على مستوى الترفيه (وأي عمل فنّي يجب أن يحمل ترفيهاً)، لا يوجد بها ذرّة ملل… من الصعب أن يتواجد الملل و الألم في مكان واحد على أية حال…
عناصر كثيرة لا يمكننا إحصاءها هنا، لا لشيء إلا لأننا لا نريد أن نسطو على انطباعاتك الشخصية قبل أن تقرأ الرواية…
لكن المؤكد من بين كل ما سبق، أن هذه الرواية احتلت مكانتها الكبيرة؛ بسبب ذلك الشعور الغامض الذي لم أستطع فهمه حتى الآن، الذي ربما تشعر به ملازماً لك طوال للرواية…
معنى ما، ربما يمكنك الشعور به أثناء القراءة ولكنه غير قابل للإمساك أو التحليل… حتماً هو معنى أكبر بكثير من مفهوم الإصرار أو الإرادة أو حتى الإيمان التقليدي…
معنى عظيم، يتسلل من أحداث الرواية ليغيّر مفاهيمك عن الحياة، ويبث بداخلك أمل خفي دون ان تعرف لماذا وكيف… فقط تشعر أنه أصابك رذاذًا منه…
ربما لهذا السبب تحديداً، أسماها (شيفرة بلال)…
كلمة (شيفرة) هي الكلمة الوحيدة فعلاً التي يمكنها أن تعبّر عن هذا المعنى الذي يجمع بين الغموض والأثر العميق…
و يمكنك تحميل الرواية من خلال هذا الرابط: تحميل رواية شيفرة بلال PDF
كتب PDF ، كتب و روايات PDF ، أفضل تجميعات الكتب، كتب عالمية مترجمة ، أحدث الروايات و الكتب العربية ،أفضل ترشيحات الكتب و الروايات، روايات و كتب عالمية مترجمة.