حكاية دوستويفسكي عن البائسين في القرن التاسع عشر…في قبوي

هل سمعت يومًا برواية “في قبوي”، “الإنسان الصرصار”، “رسائل من أعماق الأرض”؟لا ليسوا ثلاث روايات، بل ثلاثة عناوين لرواية واحدة والتي هي بالنسبة لي أروع رواية قرأتها لهذا الكاتب.هذه العناوين لم تأتِ من باب التنوع، ولا من باب الاجتهاد في ترجمة العنوان، بل من باب المحاولة قدر المستطاع نقل المعنى العميق للرواية من خلال عنوانها، والتي لم تسعها هذه العناوين الثلاثة. الرواية التي أبدعها الكاتب العبقري البائس الراحل دوستويفسكي (1821 – 1881)، والتي كتبها عام 1864.

يقال أنّنا عندما نحزن تعجز الكلمات عن الوصف، نعجز عن نقل بؤسنا للمحيط، فنبقى صامتين نلتجأ إلى الله الذي يعلم ما بنا، أو نبكي بحرقة لعلّ دموعنا تنقل نبذةً عن حجم معاناتنا، أمّا هذا الكتاب، فمعجزته أنّ الكاتب تمكن وبشكل بالغ الدقة من كتابة معاناته، والتعبير عن تخبطاته النفسية، تمكن من خلال ذلك من نقل آلام مأساته إلينا بأسلوب مؤلم للقلب.

“أنا إنسان مريض … إنسان حقود، إنسان ممقوت، وأظن أن كبدي مريضة، إلّا أنّني على كل حال، لا أعرف شيئًا عن مرضي، ولا أعرف ما هي علّتي، ولست أستشير طبيبًا، كما أنّني لا أفعل ذلك قط، رغم أنّني أحترم العقاقير والأطباء، زد على ذلك أنّني متعلق بالخرافات إلى حد يجعلني أحترم العقاقير، ومهما يكن الأمر (فإنّي مثقف إلى حد يكفي ليجعلني لا أصدق الخرافات، إلّا أنّني أؤمن بها مع ذلك)، إنّ حقدي هو الذي يجعلني أرفض استشارة طبيب، وهذا لست أظنكم قادرين على فهمه، إلّا إنّني أفهمه جيدًا”

وأنت كقارئ تلتقي لأول مرة مع سطور الكاتب هذه، وتبدأ الرواية بقراءة هذه العبارة، ماذا سيخطر على بالك؟ كيف ستصف هذا؟

الكثيرون ممن حاول قراءة هذا الكتاب، غادروه مع الجملة الأولى، وآخرون تابعه بشغف، بغية التعرف أكثر على هذا البائس المتناقض، الذي يعترف وبكامل عقله أنّه يعاني من مرض نفسي وعقد لا تنتهي.

 لقد كنت أكذب حين قلت أنّني كنت موظفًا حقودًا، كنت أكذب بدافع الحقد، ولم يكن الأمر يتعدى استمتاعي بأولئك الناس وذلك الضابط، أمّا الحقيقة فهي أنّني لم أكن حقودًا لقد كنت أحس في أعماقي بأشياء أخرى تريد أن تجد لها مخرجًا، إلّا أنّني لم أكن أسمح لها بذلكوكنت أصر على عدم السماح لها بذلككانت تلك الأشياء تعذبني وتخجلني، وكانت تجعلني أرتجف، وأشعر بالمرض، وها أنا أشعر بالمرض فعلًا ! ألا تظنون أيّها السادة أنّني لا بد آسف الآن على شيء ما؟ وأنّني أطلب الغفران منكم؟ أنّني متأكد من أنكم تظنون ذلك، إّلا أنّني أؤكد لكم على كل حال أنّني لا أكترث إذا كنتم 

هذا التناقض الذي نراه لم يكن موجودًا منذ ولادة شخصية الرواية، والذي كان يلقب “رجل القبو”، لنكن منطقيين … إنّ بطل الرواية كبر في مجتمع هَمّشه، واضطهده لفقره، لقد سخروا منه كثيرًا لأنّه كاتب، لم يبحثوا بداخله عن ذلك الإنسان العطوف، والذي يستطيع المسامحة عن أكبر الأخطاء مقابل رد فعل لطيف لتجده بعدها يعود طفلًا محببًا، ويعم الفرح قلبه.

كان يعرف تمامًا كم كان مثقفًا، وكم كان يحمل في جعبته الكثير من العلم والمعرفة ليكون مميزًا، ولكنّ الفقر أحرقه، أحرقه لدرجة الإهانة، لقد أهين كثيرًا، حتى من الشخص الذي يعمل في بيته، كان يُنظر إليه باحتقار، أصدقاؤه … زملاؤه في العمل … الناس الذين يسيرون في الشارع، لعل ملابسه وأسلوب حياته كانت عائقًا في السماح له برسم معالم شخصيته وفرض احترام المجتمع له، وهذا من دون أدنى شك من وجهة نظره الشخصية، وليس من وجهة نظرنا نحن.

“يعيش فأرنا المنسحق تحت وطأة تلك السخرية وذلك الاحتقار، منهمكًا في صب حقده البارد اللاذع الأبدي، ويستمر طيلة أربعين سنةً على استعادة تلك الإساءة في ذهنه، ويتخيل أتفه تفاصيل ذلك الاحتقار، مضيفًا إليه من خياله تفاصيل أخرى أشد إهانةً وإذلالًا، معذبًا نفسه بذلك الحقد المتخيل”

كم من الصعب أن تشعر بهذا الألم … محاولات متكررة بائسة وفاشلة في أن تصنع لنفسك مكانةً أمام الآخرين، ولكن بعد كل محاولة بائسة منك، تسقط أعمق إلى الهاوية، تغوص أكثر ليزداد شعورك باليأس وبأنّك مهما حاولت ستبقى جرذًا عاجزًا وأعمى، لا نستطيع أن ننكر أنّ الكاتب كان عبقريًا بما فيه الكفاية لينقل هذا الكم  من المقت والحزن المتأصل به بطريفة تؤثر بالقارئ لهذه الدرجة، لقد حاول بشتى الوسائل الخروج من هذا الكهف المظلم، إلّا أنّ الحقد للأسف كان دواء نفسه الوحيد.

لقد استطاع من خلال روايته هذه وصف ألمه، وملامسة آلام الكثيرين، لقد شرح  ما عجز عن قوله الملايين من الناس حول العالم.

أظن أنّ القُرّاء الآن قد أصابتهم حالة من السلبية بعد قراءة هذا المقال، ولكن فلنكن منصفين فإنّه لم يكن ذلك الإنسان المستسلم، لقد كان يحلم ويحاول ملايين المرات بتغيير هذا الوضع، لتصبح حياته تستحق أن تعاش:

كانت تمر بي لحظات أشعر فيها بالنشوة والسعادة، ولم أحس خلالها بأية سخرية من نفسي، قسمًا بشرفيكان لي إيمان وألم وحبوكانت المشكلة معي أنّني كنت في تلك الأيام أؤمن إيمانًا أعمى بأنّ معجزةً ما، أو حادثةً خارجيةً ستحدث، وأنّ هذا كله سيتلاشى، وأنّني سأعثر يومًا على فعّالية مناسبة، على شيء نبيل جميل.”

وهذا يعني أنّه كان يحاول أن يقوم بالأفضل، غير أنّ ميوله لتحسين ذاته لم تبدأ عندما أصبح كاتبًا، حيث  أظهر في مكان ما من روايته أنّه كان يحاول إثبات نفسه أمام أصدقائِه منذ أيام الدراسة:

وكانوا ينظرون إلى هذا كله بكآبة، وسخرية، رغم أنّهم كانوا يعترفون بتفوقي؛ لأنّ الأساتذة أنفسهم كانوا يهتمون بي بسبب ذلك.

كل ذلك  كان ينهش جسد “رجل القبو” المنهك، لقد تملكه الحقد بالكامل، ولكن ذلك لم يحجب عنه صورة الفتاة التي أعجب بها، والتي جعلته يقع بالحب بكل جوارحه الناذفة، ليُسحر بها:

ونظرت بصورة ميكانيكية إلى الفتاة التي كانت قد دخلت الغرفة، ولمحت وجهًا طريًا شابًا فيه شيء من الشحوبكان فيه حاجبان أسودان معتدلان، وعينان دهشتان سحرتاني في الحالكنت سأكرهها لو كانت تبتسم.

إنّها ليزا … الفتاة التي استطاع أمامها فتح سراديب قلبه، لينطق بشيء غير الحقد، غير الكره والانتقام، إنّها الفتاة التي جعلته يتكلم عن الأشياء الجميلة التي رآها في حياته، أو التي تمنى رؤيتها.

لعل بؤسها، وشقائها هي الأخرى، كان الحافز الأكبر له لينتشلها وينتشل نفسه من غياهب ظلمات تلك الحياة التي كانا يعيشانها، لقد حاول بالحب الذي تملكه عندما رآها، أن يخرجها مما هي عليه، ولكن هل نجح بذلك؟.

كانت تراه مخلّصها، فالرجل الذي لامس عذابها ودخل أعماقها، غمرها بنصائحه، لقد وجدت أملًا بين كلماته:

“إنّ الإنسان يا ليزا لا يتذكر إلّا مصائبه، وهو لا يتذكر شيئًا من الأيام التي يكون فيها محظوظًا، ولو تذكر ذلك لأدرك أنّه قد كان له نصيب كبير من ذلك أيضًاولكن، ماذا لو سارت الأمور سيرًا حسنًا بصورة دائمة؟”

كان يشعر بشيء من الغبطة والسعادة بأنّه استطاع أن يجذب تلك الفتاة لكلماته، لقد وجد من يفرغ عقده فيه، وبنفس الوقت وجد من يحبه، فامتزجت قسوة القلب وحلاوة الحب معًا، هو لم يكن يعرف ما هذا الشعور، كل ما عرفه هو لمسة السرور التي باتت حديثًا تلامس قلبه.

ظل هذا البائس يفكر لأيام  عديدة بها، يغزل قصة حبه معها، ولكن في نفس الوقت يتمنى ألّا تأتي إلى منزله، كان يعلم أنّ البطل الذي كان في عينيها سيختفي حال ما تراه في منزله، فقد كان يشعر بنفسه حقيرًا مذلًا عند شغيله، وجرذًا في ذلك الركن من غرفته، إلّا أنّ أتت.

لم يكن يعرف ماذا يفعل، مع كل التخبطات التي يواجهها داخله، قد خجل من نفسه أمامها، يحبها ويريدها أن تحبه، وبنفس الوقت حقد عليها؛ لأنّها رأته في هذه الحالة.

وهذا الذي جعله يثور ثورته عليها، ودهس كل خلية بقلبها بقدميه، وصب جام غضبه على العالم بها، لقد دفعت الثمن غاليًا بمجيئها، والذي جعلها تنتحب من ثم تذهب.

كان هذا الوضع أقسى ما مر به البائس بحياته، فقد صور الكاتب أنّ معاناته أجمع لم تكن بذلك العذاب الذي ذاقه عندما رآها تنتحب، فالحقد أكل من قلبه بشكل يجعله حاقد على الحب، ولكن بالنظر إلى الشخص الوحيد الذي أحبه بحياته، جعله يشعر بمقدار غبائه ولماذا قام بذلك، ليذوق ندم و ألم جديد و هو فقدانها:

“ارتديت كل ما امتدت يدي إليه من ملابسي، وركضت منطلقًا في أثرها … لأركع على ركبتي أمامها، وأبكي نادمًا، وأقبل قدميها وأستميحها العذرلقد أردت أن أفعل ذلك، وكان صدري يتمزق أسى، ولا يمكنني أن أتذكر تلك اللحظة بلا اكتراث مطلقًا.

لقد اكتفى قصة كتابه في رحيل ليزا، لم يعد بمقدوره الشرح أكثر، أو كتابة المزيد من متناقضات حياته، نعترف بإبداعه في عرض الوجه الآخر للحياة، الجانب الذي وجدنا أنفسنا ببؤسه حتى لو لم تتطابق القصص، إلّا أنّ النهاية لم تشبه ما تأملنا، كان غريبًا، ليس كفيلم نهايته زواج البطل بالبطلة.

هذا الكتاب كان سرًا لديستويفسكي؛ لأنّه نقل معاناة الأفراد الذين كانوا مثله بالقرن التاسع عشر بقول، فقد قال بالمقدمة:

“إنّ كاتب هذه المذكرات، والمذكرات نفسها، وهميان طبعًا، وبالرغم من ذلك فإنّني لا أقول أنّه من الممكن أن يوجد مثل هذا الشخص في المجتمع وحسب وإنما أقول أنّه موجود فعلًا، ويستطيع القارئ أن يتأكد من ذلك إذا ألقى نظرةً على الظروف التي ينهض عليها مجتمعنالقد حاولت هنا أن أصف أحد أفراد الماضي القريب للرأي العام وصفًا أدق وأوضح من الوصف الشائع المألوف؛  لأنّه يمثل جيلًا ما يزال على قيد الحياةإنّنا نرى هذا الشخص مقدمًا إلينا نفسه وآراءه في القسم الأول وكأنه يحاول أن يوضح الأسباب التي أدت إلى ظهوره في مجتمعنا، أمّا القسم الثاني، فإنّه يحتوي على المشاهدات الحقيقية المتعلقة بشخصه، والخاصة بحوادث معينة من حياته.
فيودور دوستويفسكي”

إن كنت من أصحاب الجلادة والصبر، سيغمرك انجذاب كامل لهذه الرواية، والتفكير بالجانب الآخر للحياة بشكل أعمق، وتقدير مشاعر الناس، التي هي النقطة الأهم التي حاول الكاتب نقلها بشكل قصصي.