كتب عن الكتب تنزل عليك كالصاعقة

“على المرء ألا يقرأ إلا تلك الكتب التي تعضه وتخزه. إذا كان الكتاب الذي نقرأه لا يوقظنا بخبطة على جمجمتنا، فلماذا نقرأ الكتاب إذًا؟ كي يجعلنا سعداء كما كتبت؟ يا إلهي، كنا سنصبح سعداء حتى لو لم تكن عندنا كتب، والكتب التي تجعلنا سعداء يمكن عند الحاجة أن نكتبها، إننا نحتاج إلى تلك الكتب التي تنزل علينا كالصاعقة التي تؤلمنا، كموت من نحبه أكثر مما نحب أنفسنا، التي تجعلنا نشعر وكأننا قد طردنا إلى الغابات بعيداً عن الناس، مثل الانتحار. على الكتاب أن يكون كالفأس التي تحطم البحر المتجمد في داخلنا، هذا ما أظنه” هكذا كتب فرانز كافكا عن الكتب التي يجب أن تُقرأ.كتب عن الكتب تنزل عليك كالصاعقة

سأطرح في هذا المقال ترشيحات لكتب “تنزل علينا كالصاعقة”، كما أرشح أن تقرأ بالترتيب المقترح أيضًا. لن يكون ترتيب الكتب عبثيًا. ترشيحات لكتب ستغيرنا كقراء، تثقلنا بالوعي، وتزيد معرفتنا بجهلنا. لن تقتصر الترشيحات على كتب روائية فقط بل ستحتوي الترشيحات على ثلاثة كتب، تجمعها ثيمة عامة: الكتب والمكتبات وفعل القراءة. هي كتبٌ عن الكتب، فهلا نبدأ؟


كتاب تاريخ القراءة تاريخ القراءة من تأليف ألبرتو مانغويل وترجمه سامي شمعون، صدر عن دار الساقي.

عن العلاقة بين القارئ والكاتب (والكتاب بالضرورة)، وصف مانغويل أنها:

“بين خالق بدائي يهب الحياة في لحظة الموت وبين خالق بعد مماته، أو بالأحرى بين أجيال من الخالقين بعد مماتهم الذين يمكنون ما جرى خلقه من التكلم، والذين لولاهم لأصبح كل شيء مكتوب ميتًا. القراءة هي إذًا تبجيل الكتاب”.

ترى هكذا كتب النور عندما يغمر فعل القراءة كاتبها بالحب، عندما تكون الكتب هي المكون الأساسي لمخزونه المعرفي. كتب ولدت من أقلام قارئةٍ واعيةٍ متمكنةٍ.

ألبرتو مانغويل يروي قصة القراءة والكتب، هذا كتاب تاريخ غير مرهق. هل يمكن للتاريخ أن يكون بهذه المرونة إلا مع مانغويل؟ تاريخ القراءة كتاب يحفر عميقًا في جوف التاريخ، باحثًا عن أصل كل ما يتعلق -تقريبًا- بالقراءة. كيف نشأت؟ كيف تطورت؟ ماذا يعني فعل القراءة؟ من هم أهم القراء في العالم؟ كيف ساعدت القراءة الكُتّاب ليخلدوا أسماءهم في التاريخ؟

قدم لنا مانغويل كافكا كما لم يقدمه أحد من قبل، تكلم عن أشهر القراء في العالم كابن الهيثم وريلكه. ذكر الهوس الذي قد يضطر القارئ إلى أن يكون سارقًا أحيانًا، فجاء على ذكر الدوق لييري أهم سارق كتب مر على التاريخ.

يستعرض دور القراءة المباشر في الحدث التاريخي. كيف لا، وهي جزء من الذاكرة وأداة مهمة في اكتساب الوعي. أنا ممتن جدًا لهذا الكتاب، وممتن جدًا للقراءة والكتب. كتاب بديع، سلس، المجهود المبذول فيه عظيم وواضح. شكرًا مانغويل.

ملاحظة على الهامش: الجهد المبذول هنا، استوقفني لأن أصنف الكاتب الجيد على أنه قارئ نشيط. لا؟


اسم الوردة

ثانيًا، سنعمد إلى قراءة هذه الرواية الغريبة. رواية اسم الوردة من تأليف أمبرتو إيكو وترجمة أحمد الصمعي. ونقرأ بعدها حاشية على اسم الوردة لأمبرتو إيكو وترجمة أحمد اللويزي صادرة عن دار تكوين.

“الخير بالنسبة إلى كتاب هو أن يقرأ” وهذا الكتاب خير، وهذا الكتاب يجب أن يقرأ. سأبالغ هنا فأقول: قليلة هي الكتب التي تشكلنا بشكل مباشر، فنكون قبلها شيئًا، لنصبح بعدها شيئًا آخر. هكذا على الفور. اسم الوردة كتاب من تلك الكتب. هي من الروايات التي توضع في لائحة ” خمس روايات تقرأ قبل الموت”. هي من الروايات التي تأخذ بيدنا، قُرّاءً جاهلين، عاديين، كسولين، لتبلورنا كي نصبح متجددين. القراءة فعل حياة. وهنا اسم الوردة فعل حياة.
الموهبة قد تستطيع أن تلد نصًا جميلًا، قد يكون النص قريبًا من القلب، هذا النص المكتوب لم يكن لكاتب موهوب، هذا النص لأستاذ، لمعلم، لرئيس! هذا الكتاب يُكتب من فيلسوف وسيميائي ومؤرخ مجتهد. يا أمبرتو إيكو: أنت معلم.

تعالوا أحكي لكم قليلًا عن اسم الوردة. هي رواية مغلفة بغلاف بوليسي، حيث تحدث جريمة في دير للرهبان، تستدعي من أدسو الراهب المبتدئ والذي يقص علينا الحكاية بعد أن تجاوز الثمانين عامًا وغوليالمو معلمه الفرنشسكاني كشف ملابسات الجريمة، لتليها سلسلة من الجرائم الغامضة.

اقرأ الرواية بعمق أكبر، لترى الغلاف البوليسي يتهاوى ويسقط. هو دير بناه إيكو بمهارة المعماري، فاعتنى بأدق التفاصيل، واعتنى أكثر ما يمكن بتلك المكتبة الغامضة القابعة كحصن منيع في ذلك الدير. للمكتبة رئيس ومساعد، لا يخرج كتاب منها إلا بعد إذن الرئيس وأحيانًا رئيس الدير.

كثيرًا ما عمد إيكو على التركيز على أن المكتبة متاهة، فيصف بأنها فسيحة لمن يريد الدخول إليها، وضيقة لمن يرغب في الخروج. المكتبة متاهة كبيرة وهي دليل على متاهة العالم.

يقول إيكو في مقابلة له بأن “المكتبات هي الذاكرة المشتركة للجنس البشري” كما يقول في موضوع آخر بأن “الذاكرة هي الروح”، ونحن عندما نقول “أنا” فإننا نعني ذاكرتنا، وبهذا، فالمكتبة والقراءة والكتب تشكلنا وتحتوينا. هذه رواية عن الكتب والمكتبات، وعن التاريخ بشكل ثانوي، وعن السيميائية بشكل عام، وبوليسية بشكل طفيف مهمل.


حاشية على اسم الوردة

لا شك بأن قراءة حاشية على اسم الوردة، شيء ضروري ومهم، وهو كتاب لا يعمل على تأويل النص بل يوضح سيرورته من قبل إيكو نفسه. أعتقد بأن قراءة الحاشية لا يعد أمرًا ثانويًا. لذلك اعتبرت أن الرواية والكتاب عمل كامل متكامل.

رواية تحدثت عن المعرفة وشهوتها، وعن الحب وشهوته، عن الكنيسة ورجال الدين، عن الضحك، والفقر. رواية قد تلفت نظرنا إلى أن من يتجرأ على الكتابة، عليه أن يعرف بأنه وإن رغب في أن يلعب دورًا في الذاكرة المشتركة للجنس البشري، عليه أن يكون كاتبًا أكثر من موهوب؛ عليه أن يكون معلمًا.

من قرأ منكم حكاية الملك يونان والحكيم رويان، وهي أحد الحكايات الفرعية التي جاءت في حكاية الصياد مع العفريت في حكايات ألف ليلة وليلة، سيعرف كم تأثر مانغويل بحكايات شهرزاد، ولا نلومه على ذلك أبدًا.


ذاكرة القراءة

نعود مجددًا لألبرتو مانغويل وهذه المرة مع كتابه ذاكرة القراءة، ترجمة جولان حاجي صادر عن دار الساقي.لا يزال ألبرتو مانغويل يعبر عن القراءة والكتب والمكتبات بكلمات وجمل خالية من الابتذال. لماذا أقرأ؟ لم تشبعني أبدًا تلك العبارات والكليشيهات التي نشأت عليها: حياة واحدة لا تكفيني، وقارئ اليوم قائد الغد. بكل صدق، أقرأ لأنه يجب علي أن أقرأ. القراءة فرض على كل فرد في هذا المجتمع.

يستعرض مانغويل فكرة القراءة ودور المكتبات العامة في تشكيل أفراد قادرين على تحديد مفاهيم جوهرية في حياتنا كأفراد وفي علاقة الأفراد بعضهم ببعض بغية تكوين مجتمع سليم متناغم. في عرض رشيق، يستعرض مانغويل أهمية الأدب بشكل عام وأهمية المكتبات العامة بشكل خاص.

يربط مانغويل فكرة المكتبة العامة والمكتبة الوطنية بخلق مفردات أخلاقيات المواطنة عند الأفراد، فكيف سنختار هذا السياسي أو ذاك، وأن نعالج هذه المشكلة أو تلك إذا كان معجم مصطلحات حياتنا السياسي والاجتماعي والثقافي مشوهًا ومبتورًا! يقول مانغويل عن أهمية المكتبات العامة في هذا الخصوص “وأين سنجد خير تعبير عن مفهوم الإنصاف المتداول هذا، وخير تدوين له، إن لم نجده في مكتباتنا العامة؟”.